مرّت مئوية اكتشاف عالم المصريات الفرنسي بيار مونتيه لناووس أحيرام، ملك جبيل والنقش عليه، دون أن يجري التقاطها في لبنان هذا العام، لإعادة الوصل مع ورشة حفريات الهويّة الذي دشّنها هذا الحدث الأركيولوجي عام 1923. فالسؤال الثقافي – الهويّاتي لم ينطلق فور التأسيس الفرنسيّ للبنان الكبير عام 1920، وإنما في أعقاب اكتشاف ناووس أحيرام. من خلال الجدل حول تجويز نقله إلى فرنسا أو لا.
وجه المفارقة حينها أنّ حملة راية الجامعتين العثمانية والعربية هم الذين تولّوا مهمّة الاعتراض على سوق ناووس أحيرام إلى باريس، وهذه كانت حال الأمير شكيب أرسلان، وتقارن بتولّي رئيس مجمع اللغة العربية في دمشق محمد كرد علي حركة الاعتراض على نقل الآثار المكتشفة في المناطق السوريّة المختلفة إلى الحاضرة الاستعماريّة.
أمّا روّاد النزعة «الفينيقية» مثل شارل قرم فكانوا متماهين تماماً مع سياسة فرنسا. لكنهم ما كانوا قد لبننوا نزعتهم الفينيقية بعد. وكانت لا تزال تتحرّك في إطار تصوّر كولونياليّ عن سوريا فدرالية ومُفَرَنسة.
كما يوضح المؤرخ هنري لورنس قام التعارض لدى النخب المحلية المفرنسة، ولردح من الزمن، بين الهويتين «السوريّة» و»البدويّة»، وكانت لسوريا دلالة ساحلية أكثر منها داخلية.
نتيجة توسيع الفرنسيين لبنان من حيّز جبليّ إلى حيّز مشرّع على 210 من السواحل، في مقابل 180 كلم طول الساحل السوريّ (من بعد إلحاق لواء الإسكندرون بتركيا) كانت التشديد على الطابع «المتوسّطي» للبنان في مقابل الطابع «الداخليّ» أو «القارّي» لسوريا. مع ذلك، فإنّ الميل المتزايد للبننة و«مسحنة» الإحالة إلى الفينيقيين، انساقت ضمن تلفيق أيديولوجيّ، «استشراقي – ذاتيّ»، يطلب «الثقافة الأصيلة» من القرية الجبلية، ويقرن المدينة الساحلية بفكرة سحيقة وعجائبية في آن عن «التجارة».
جاء اكتشاف قبر أحيرام بعد أشهر وجيزة على الحدث الذي كان له مفعول ثقافي في مصر، وهو اكتشاف قبر توت عنخ آمون عام 1922، ما أجّج النزعة الفرعونية. الفارق أنّ الكليشيه الذي ساد حول مصر الفرعونية كان يميل إلى اعتبارها أم فكرة الدولة الترابية المركزية منذ أقدم الأزمان.
وفي حين انتهى الأمر في مصر بأن نجحت الوطنية المصرية بامتصاص النزعة الفرعونية، بدمجها بسردية «الوطن الخالد للمصريين» و»الدولة المركزية القائمة منذ القدم»، وهما مقولتان تردان في ديباجة الدستور الحالي، فقد بقيت النزعة الفينيقية انقسامية بين اللبنانيين، ويمكن القول إنها ضاعت بين من أهدر فرصتها وبين صد السبيل عنها بعنجهية وتعنت.
عندما اندفع العلامة أرنست رينان، مستفيداً من التدخل العسكري الفرنسي عام 1860، لإطلاق حفريات «البعثة الفينيقية» كان تصوره حول هذه الحضارة طريفاً وإشكالياً في آن. فقد أقام مناقضة بين التحدّر الساميّ للفينيقيين، وبين كونهم «غير ساميين» بامتياز، إذ لا تشبه منظومة المدن – الدول عندهم، بالنسبة له، أنظمة الاستبداد الشرقيّ في الرافدين ولا مجتمعات البداوة. بدلاً من أن يدفعه استنتاج كهذا إلى مراجعة تصوراته التي تحيل كل شيء إلى القسمة بين جنس ساميّ وبين جنس آريّ، حصر إسهام الفينيقيين بالوصل بين حضارتين غير ساميتين، المصرية ثم اليونانية. إدارة الظهر للداخل الساميّ أو العربيّ هو الذي عاد وحرّك النزعة الفينيقية في شكلها الإحيائي المسيحيّ «اللبنانويّ».
في المقابل، لم تقترن إدارة الظهر هذه لبرّ الشام، للداخل الآرامي، أو ما شئت من تسميات على هذا الصعيد، مع فتحة جديّة على عالم البحر. بالعكس. ويمكن هنا التأمل في التقاطع والاختلاف بين المؤرخين أحمد بيضون وهنري لورنس.
فالأوّل يبني على غربة النزعة الفينيقية اللبنانية هذه عن البحر، في حين يربط لورنس هذه النزعة بمفارقة لبنانية أشمل، وهي أنّ اللبنانيين «جبليّون عبروا البحار». أي بشكل أساسيّ من خلال الهجرة إلى الأمريكيتين. أيّاً يكن من شيء، مرّ القرن الأول على الفكرة اللبنانية دون أن تفلح لا في الوصل بشكل مريح مع الداخل «القاريّ»، ولا في الاستفادة من كل ما تؤمنه لها هذه الواجهة البحرية.
كان بوسع النزعة الفينيقية أن تكون كفيلة بفتح البلد على مداه المتوسّطي، وفي النطاق المعروف بأنه «شرق المتوسّط» بشكل رئيسي، والحال أنه حدث العكس. أدارت ظهرها للبحر واعتصمت في الجبل، وسخر منها أخصامها في المقابل كما لو أن الحضارة الفينيقية القديمة كانت ساحلاً بلا جبال، في حين أنّها جزء من حضارات عديدة في حوض البحر المتوسط تتشكّل سماتها من قرب الجبال من السواحل، والفاصل الذي تعمله هذه الجبال المطلّة على البحر، بينه الحوض وبين ما وراء الجبال من جهة «الأراضي».
في الفترة نفسها التي كان يفك فيه نقش تابوت أحيرام في جبيل، المدينة المتوسطّية بامتياز، والتي عمّقت الكشوفات الأثرية حينها دور البحر في صنع الرابطة بينها وبين مصر، إذ كانت جبيل جزءاً من المدى «الإمبراطوريّ» المصريّ، كانت ايطاليا الفاشية الفتية تحاول أن تجير لحسابها فكرة الانتماء لفكرة البحر المتوسط. كيف لا وهي المرشّحة، خاصة من بعد استعمار ليبيا، وفي ظلّ عملها على استتباع ألبانيا واليونان، لتزعم بلدان هذا الحوض، واحياء المجد الروماني.
بل أن الفاشيين الإيطاليين احتاروا لسنوات. بين النظرية المتوسطية وتلك الآرية. لم يوفّقوا التأليف بينهما. وهنا أيضاً كانت النزعة المتوسّطية تهدر وتذهب هباء. في هذا الوقت، لم يكن النازيّون يوجّهون عقيدتهم ضد «اليهود» فحسب، بل ضدّ الفينيقيين أيضاً. عداء ألفرد روزنبرع في «أسطورة القرن العشرين» 1930 للحضارة الفينيقية تفوّق على عدائه لليهود. بخلاف رينان، فينيقيا عنده هي الشرّ الساميّ بامتياز. استعان لذلك بالمؤرخ الإغريقي هيرودوت ليقرن بالفينيقيين كل ما يعتبره من كوارث التهجين غير الصحيّ بين الأجناس. الطامة أنه بعد ذلك بسنوات قليلة، كان أيديولوجيّ النزعة اللبنانوية، إنما المنزاحة معه من الجبل إلى الساحل، ميشال شيحا، يقيم تناقضاً تنافسياً خرافياً محموماً بين النموذجين الفينيقي واليهوديّ في العصر القديم، ويتعين استمراريته بين نموذجين متناقضين للتجارة!
منذ شيحا، مروراً برينيه حبشي، وصولاً ولو من منطلق مختلف بسمير قصير، المستند إلى «متوسطية الأمد الطويل» عند فرنان بروديل لسرد قصة تاريخ بيروت، كانت النزعة المتوسّطية لا تلبث أن تتحرّك حتى تتقطع في تاريخ لبنان، وفي النهاية تتطاير زبداً وتذهب هدراً. معظم الجمهوريات العربية تميّز عروبتها دستورياً، بالإشارة إلى الأكراد في العراق، والأمازيغ في الجزائر، أو باللفت إلى الجذور الفرعونية والمدى المتوسطيّ في حال مصر، و»تعاقب أحقاب تاريخنا» في حال تونس التي لا يقارن تصالحها مع التاريخ البونيقيّ – القرطاجنيّ، أي بالنتيجة «الفينيقي» لها، مع التراكم اللاحق عليه. بل حتى البعث في سوريا والعراق، على شوفينية تصوره عن الأمة العربية، إلا أنّه تصالح أكثر مع حضارات العصر القديم، ولو من باب «التعريب» الأيديولوجي للبابليين والآشوريين والآراميين والأموريين والتدمريين. في لبنان فقط، بقي التاريخ القديم أكثر إشكالية من كل الإنقسام حول تاريخ الأزمنة الحديثة. وجرى بعد الطائف حصر الجواب على سؤال الهوية بمقولتين تجريديتين، أنه «عربي الهوية والإنتماء» وأنه «وطن نهائيّ».
والحال أنّه من دون وصل هذه الهوية مع تراكم حضاري ممتد إلى العصر القديم، ومن دون وصلها مع المدى البحريّ المتوسّطي، من الصعب بثّ الحياة في مقولتي «عربي الهوية والإنتماء» و»الوطن النهائيّ». لأجل هذا، الانكماش السياسي والضمور الاقتصادي اليوم يقترنان بجدب على مستوى الروح والثقافة فيه. بحيث أن السؤال عن «مستقبل لبنان» يتماشى مع السؤال عن «مستقبل الثقافة» فيه، ما يحاكي بشكل أو بآخر اللحظة التي فجّرها في مصر كتاب طه حسين «مستقبل الثقافة في مصر» 1938.
لقد شدّد عميد الأدب العربي فيه على أن المدى الحضاري لمصر منحاز الى البحر المتوسط والغرب لا الى الشرق، و»لم يعش عيشة سلم وتعاون مع العقل الفارسي»، والمصريّون كما قال «لو خيروا كرهوا أشد الكره أن يحيوا حياة الصين والهند». رهاب الشرق الآسيوي هذا يمكن بل ينبغي أن يُعاب على طه حسين، لكن أولوية النظرة بإتجاه الفضاء المتوسّط يمكن أن تقتبس منه.
في الوقت الذي تدمّر فيه مدينة من أقدم مدن الحوض، غزة، قد يكون في هذا الاستئناس بهذا البحر الذي يصلنا بها، ويصلها ببقية مدن الحوض، محرّضاً على رؤية الكارثة في بعدها المتوسّطي، وارتباطها بالفجوة المتسعة بين شمال الحوض وجنوبه.
إن رهن المتوسطية في بعدين، أمني «ضد المهاجرين» وسياحي، هو جزء من كبوة تعيشها بلدان الحوض، وإذا فشلت كل أشكال استنطاق المتوسطية في القرن الماضي، فإن ربطها بمشروع سلام دائم في بلدان الحوض على قاعدة خلوها من اضطهاد شعب لشعب آخر، ومن حكم الطغم واستشراء الظلاميات والفاشيات بمستطاعه استرداد البعد المتوسطيّ إلى حيّز الأثر، وجعلها فكرة أكثر يسارية من ميلها اليميني في القرن الماضي. بل أن اليسار في بلدان الحوض لا يستطيع أن ينهض اليوم إلا بصيرورته يساراً متوسّطياً.

