: آخر تحديث

الريح والبلوط

34
33
36
مواضيع ذات صلة

كانت كوسوفو في ذلك الوقت مشرقةً وباردةً. قال لي السفير محمد العرابي وزير خارجية مصر الأسبق: الطبيعة هنا رائعة كما بدتْ لي من الطائرة.

كان ذلك صحيحاً، فجمال كوسوفو الخلاّب كان واضحاً في عدة مدن زرناها من العاصمة «بريشتينا» إلى المدينة الثانية «بريزرين».. ولم يكن الكوسوفيون الذين التقيناهم أقلّ روعة من بلادهم. في الزيارة التقينا الرئيسة السابقة عاطفة آغا، واستقبلنا وزير الخارجية في مكتبه، وتحدثنا مع أعضاء البرلمان وكانت من بينهم النائبة «تاووتا إبراهيم راجوبا» ابنة أول رئيس لكوسوفو، والتي حدثتنا عن الحرب والسلام في بلادها.

في محاضرتي بالمكتبة الوطنية بالعاصمة قلت للحضور الذين ملأوا القاعة الكبرى: أودّ أن أشكركم على هدية ثمينة لا تُقدر بثمن، تلقيناها من الأمة الألبانية قبل أكثر من مائتي عام.. إنه الزعيم محمد علي باشا. لاحقاً زرتُ ألبانيا، والتقيت رئيس الجمهورية السيد إيلير ميتا، بصحبة الأكاديمي الألباني البارز البروفيسور أرمير جينيش الأستاذ في جامعة تيرانا. وفي اللقاء قال مستشار الرئيس: إنني ولدت في قرية «الزماليك» وهي قرية محمد علي باشا، وقد سمّي حي الزمالك في القاهرة على اسمها.

في كوسوفو دعاني السفير بكر إسماعيل رئيس الأكاديمية الدبلوماسية الكوسوفية وسفير كوسوفو السابق في القاهرة.. إلى فنجان قهوة مع أكبر مؤرخ ألباني معاصر، والذي أهداني كتابه عن «محمد علي باشا».. وطلب مني نشره بالعربية في مصر. كان من بين أحاديث عديدة بيني وبين السفير بكر إسماعيل.. ما رواه لي عن الرئيس اليوغوسلافي «سنان حساني» الكوسوفي الذي تولّى رئاسة يوغوسلافيا عامي 1986 و1987.

كانت هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها بالرئيس حساني، والمرة الأولى أيضاً التي أعرف فيها أن سياسياً كوسوفياً تولى رئاسة يوغوسلافيا في حقبة ما بعد تيتو، في إطار تداول السلطة بين قادة المكونات السبع: صربيا وكرواتيا والبوسنة ومقدونيا وسلوفينيا وكوسوفو والجبل الأسود. كان الرئيس سنان حساني أديباً كبيراً، وفي أواسط القرن العشرين كتب أول رواية باللغة الألبانية «العنب ينضج»، وفي السبعينيات صدرت أشهر رواياته «الريح والبلوط»، والتي نشرت باللغة العربية في أثناء رئاسته يوغوسلافيا.

تدور الرواية حول «لِيسْ»، ذلك الثائر البطل الذي يتحصّن في الجبال، ثم يقرر الهبوط من أعلى ليبدأ نضالاً جديداً، يقوم فيه بخدمة المجتمع في السياسة بعد أن خدمه في القتال.. لم يكن ذلك الهبوط فيزيائياً فحسب، بل كان هبوطاً إلى الأسفل بالفعل. فلقد استقبله الرفاق الشيوعيون بكل الترحاب، وقلدوه رئاسة البلدية، ثم سرعان ما تآمروا عليه، وراحوا يكيدون له، حتى دمروه تماماً، وتدمرت البلاد على أثره.

إنها رواية سياسية ماهرة.. ترصد معاناة الذين بذلوا أرواحهم أو وضعوها على أياديهم، وهم يرون أحلامهم لبلادهم وقد داسها الأفاقون والمزايدون.. وباعة الشعارات. كان ذلك البطل نزيهاً وإصلاحياً، ولكن «ثوار المكاتب» تآمروا على «الثوار الحقيقيين».

وكعادة الكثير من المعارك غير الشريفة.. فاز التجار على الثوار.. انتصر النفاق على الجدارة، والثقة على الكفاءة، قضَتْ المؤامرة على التضحية، والوشاية على البطولة. لا يتحطّم البناء بفعل مؤامرات الخارج، ولا تتهاوى البلدان بفعل الأخطار البعيدة.. الأوطان تسقط بأنامل أصحابها، والقلاع تُهدم من الداخل.
*كاتب مصري


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد