يا له من يوم مشؤوم، ذلك اليوم الواقع في 22 تشرين الثاني 1943.
أخاطبك من باريس البهّية يا فرنسا، يا "أمنا الحنون". أقول لك ولأهلنا في لبنان، إن "الاستقلال" الذي نِلناه قبل 80 عاماً، وكنا، وما زلنا نحتفل به عاماً بعد عام، كان وبالاً علينا وخطيئة وفتنة كبرى. هل دار في خلدِك يوماً يا فرنسا، أن الزمن سيدور، وأن ما كنا نظنه استقلالاً، سوف يصبح طريقاً إلى العبودية؟! لست برغم ذلك، الوحيد الذي يريد أن يرى وطنه حراً سيداً ومستقلاً، ويطالب في الوقت نفسه، بعودة "المستعمر". أتراها مشيئتنا أم مشيئة الأقدار، أم هي الخيار الوحيد الذي لا مفر منه، فرضته علينا سفًلة من الحكام، جاءوا ليتحكموا بوليدِك من بعدك، ويسومونه شتى ألوان القهر والذل العذاب؟ يوم كان لبنان بين أحضانك، كان المواطنون من أبنائك يسمّونه جبل العطور، فأيُ عطر يفوح من أرجائه اليوم؟! كان" سويسرا الشرق"، "باريس المنطقة"، فأين ظلال الأمس من صور الحاضر القاتمة التي تملا الفراغات؟! أعرف أني، كما الكثيرين من أبناء جلدتي، مارسنا عليك فعل الخيانة، فاعذرينا. كنت صغيراً حين شاركت الجموع بالعيد، عيد خروجك من لبنان، هذا الذي صار اسمه في تاريخنا "الوطني" عيد "الاستقلال". اشعر الآن بالندم، وأقدم لك الاعتذار، وأتساءل: كيف لمن كان صبياً أن يستشرف المستقبل، وأن يكون حراً وحكيماً، وهو يُساق كالنعجة، مع ألوف الصبية والصبايا إلى رفع الرايات، من دون معرفة ما سيجيء به هذا "الاستقلال" الموهوم من آثام، ومن ظلم ذوي القربى؟! رحماك يا فرنسا، يا "أمنا الحنون". لبنانيون كُثُر تغنوا بأمجادك، منهم من كان ناشراً وأديباً (رشدي المعلوف)، وإذا هو يكتب ذات يوم: "اقولها من كل قلبي، فلتحيا فرنسا"، من بعده جاء الابن الوارث (رفيق المعلوف)، ليضيف طبقة جديدة إلى عمارة الثقافة التي تربطك بلبنان، وتربط لبنان بك.
رحماك يا "أمنا الحنون". ساعدينا على التخلص من الذين قبضوا على صولجان الحكم من بعدك. بدّدي شملهم كما بدّدوا شملنا. ساعدينا على أن نستعيد أموالنا التي نهبوها وهرّبوها، ونستعيد الوطن الذي عفّروا جبينه، ومرّغوه في الوحل والتراب. لا نريدك أن تعودي إلينا بالحراب، فقد عافت أنفسنا الحروب والحراب، مع أن ما فعلته حرابك في بلدنا ليس شيئاً، ومن الجرم أن يُقاس بما فعلته حراب ذوي القربى من قتل وسفك وتدمير وإراقة دماء! نريدك أن تعودي إلينا برايات عظيمك روبسبير، وقيم "الأخّوة والمساواة والحرية" التي كانت نسائمها تهُب علينا من بعيد. إن قلوب اللبنانيين المثخنة بالجراح تناديك يا باريس، يا وردة أوروبا، وقلب فيروز يخاطبك من أعماقه، كما خاطبك بالأمس، من على خشبة دارك الأولمبية قبل 44 عاماً: "باريس يا زهرة الحرية يا دهب التاريخ. شو بقّلن لأهلي عن وطني الجريح، عن وطني المتوّج بالخطر وبالريح".
يا له من يوم مشؤوم، ذلك اليوم الواقع في 22 تشرين الثاني 1943.
أقول الذي أقوله، وفي الحلق غصّة، لأن لنا عليك أنت أيضاَ واجب الاعتذار، لكل لبناني ولبنانية تفيأوا ظلك، ولكل لبناني ولبنانية ولدوا من بعد رحيلك. لبنان الطفل الذي ولد من رحمك، هو الآن بيد العقبان الجارحة والذئاب الكاسرة. أيام كان معك كان أشبه بالحلم. الكبار في السن يقولون إنها كانت أجمل سنوات العمر. يتذكرونها ويترّحمون عليها وعلى "الانتداب". الرحمة على روحك يا أديبنا الجليل خليل رامز سركيس. جميلة كانت جلساتي معك في شقتك الوديعة، من ذلك الشارع الهادئ بمنطقة "كنزغتن" في لندن. كنت تحدثني عن تلك الفترة الوردية من حياة لبنان، وعن السنوات الأولى القليلة جداً من عمر "الاستقلال". هل هو قدر مكتوب؟ لا أحد يدري. لكن كما لكل زمن حكاية، لكل زمن أيضاً دولة ورجال. يرحل "المستعمر الغريب"، ويأتي "الوطنيون أصحاب الدار". يفقد "المستعمر" صبره منهم، ومن المطالبين بالاستقلال. يضجر ويحزم حقائبه ويمشي. يصعد "أبو الهمم" رفقة رفاقه إلى قلعة راشيا. في يمناه سيف، وفي يسراه بارودة، وأمامه بيرق تتوسطه شجرة أرز عمرها من عمر فينيقيا. ها هو عيدكم أيها اللبنانيون. افرحوا وهللوا، فقد جاءكم "الاستقلال"، وصرتم أحراراً من أمة حرة، وبلدكم أصبح عضواً في جامعة، مع إخوان لكم في التاريخ واللغة والثقافة والمصير. أشقّاء بينكم وبينهم وشائج!
يا له من يوم مشؤوم، ذلك اليوم الواقع في 22 تشرين الثاني 1943.
يأخذ الزمن مجراه المعهود، فتعلو حناجر تغنّي بصوت عال:" لبنان يا قطعة سما"، ويصدح صوت آخر: "معافى يا عسكر لبنان يا بو زنود المسميّة، وتتغاوى أرزة لبنان، فوق جبال الحرية"، ومن هناك، من خلف جبال "الحرية،" يطير غراب ويغّط على شجرة حور، ويبدأ يقرأ قصيدة شاعر جاء من الجنوب (محمد على فرحات): "إنها بلاد البؤس المسنّن، إنها بلاد البؤس المسنّن". يستعذب شيوخ القبائل والطوائف صوت الغراب، فتقوم بينهم حرب ضروس. تتهاوى فيها خيوط الحرير التي قطعتها القنابل، وتذهب مع الريح، ويدخل الوطن في المجهول. يستغّل الرجل الذي على رأسه قبّعة إنكليزية، والآخر الذي يعتمر طربوشاً عثمانياً، الفرصة الذهبية ويمسكان بصولجان الحكم، ويبدأ مسلسل الانحدار! ها هم أبناؤهم وأحفادهم، ومن جاء معهم من أمراء الحرب، والسائرون في ركابهم من الأغنام وحملة السلاح وحملة الأختام، يملؤون الفضاء. يقيسون الناس بمعاييرهم "الوطنية، ويخلعون على من يكتب هذه السطور وأمثالها، الألقاب الهجينة: أغراب، خونة، مستغربون، "أعداؤنا واعداء الله". لا همّ عندهم إذا كان الوطن في القعر، وكان المعجن خالياً، والماء شحيحاً، والوقود مفقوداً، والرغيف مغشوشا، والكهرباء مقطوعة، والودائع منهوبة، وأسلحة الآلهة مشرّعة، ومفاتيح الحكم بين الأيادي الجائرة. المهم ان تبقى الهمم والشعارات، وتبقى الرايات خفَاقة، مزيّنة بصور "الزعيم"، ومعلقة وسط الأشجار، وعلى الأعمدة وعلى قارعات الطرق، مصحوبة بأصوات الحناجر التي تفتديه بالروح والدم! والمهم أيضاً، وقبل أي شيء آخر، أن تبقى العمائم والقلانس متحكّمِة، والنواقيس تُدَق، والمآذن تصيح! لله كم كنت رائعاً يا أبا العلاء، يا شاعرنا الضرير البصير، يوم فضّلت العقل، وقلت إن لا إمام غيره. عظيماً بين عظماء العرب كنت، وعظيماً كان الضرير البصير الذي جاء من بعدك بألف سنة (طه حسين)، لينهل من شعرِك بذور الوعي، وينثرها فوق وادي النيل... "أرمِ نظارتيك ما أنت أعمى/ إنما نحن جوقة العميان"، هكذا خاطبه الدمشقي الشاعر، (نزار قباني)، في حفل رثائه في مصر في العام 1973. أليست هذه القصيدة صائبة؟ ألا تصيب كبد الحقيقة؟ ألا تصلح لتذاع اليوم وكل يوم، في لبنان، وفي هذه المنطقة العربية الحزينة من العالم.
يا له من يوم مشؤوم، ذلك اليوم الواقع في 22 تشرين الثاني 1943.
لله كم تغيرتِ يا باريس. لست أدري، فقد أكون أنا الذي تغير. من زمن تقادم عهده، كانت حكايتنا معك يا "زهرة الحرية". كانت أيضاً حكاية شاعر رحل (أنسي الحاج)، كتب عنك في "النهار" ذات مرة، مقالاً فيه من الخيبة بقدر ما فيه من الحبر. نسيتُ مفرداته، لكن مضمونه لا يزال محفوراً في الذاكرة، كما العنوان: "أمشي أمشي ولا أرى باريس". مدينة الحب والعشق والنور والفن والجمال أنتِ. جئتك فتى يرنو إلى الأمواج البعيدة، يهوى الترحال والأسفار، ويبحث عن المتاعب ولو بثمن! قبلها عرفتك في الصور والأسماء، وكان القلب يتمايل بشجن، كلما بانت الصور والأسماء. يا لها من خيالات سحرية حميمة: ميدان "الأوبرا"، ساحة "إتوال" ساحة "فاندوم"، حديقة "لوكسمبورغ"، ميدان "الكونكورد"، "مونمارت"، "سان جرمان"، "نوتردام"، ومع الزمن، إرتوت أزاهير الحب مع فيكتور هوغو، في روايته الأثيرة "أحدب نوتردام"، ومع سهيل ادريس في "الحي اللاتيني"، ومع توفيق الحكيم في "عصفور من الشرق". تلك كانت الآمال والأحلام العذاب، حتى جاءت أيام وقعت العين فيها على العناوين الجافة الفجة: "الذباب" و "الغثيان" لجان بول سارتر، "الطاعون" و"الغريب" لألبير كامو، فتغيرت المشاعر. ما أسخفها الروايات الفلسفية، أمام جماليات الطيبة والبراءة!
لا بدّ أنك ما زلتِ تذكرين ذلك الفتى ودنياه يا باريس، وكيف كنت تسافرين معه في الأحلام، وكيف ذهب، بعد أن رماه القطار على الرصيف، إلى "نوتردام"، متذكراً فيكتور هوغو، متأملاً باحة الكاتدرائية العجوز، ردهاتها وأعمدتها الرخامية، علّه يرى إذا كان الصغير الأحدب "كوازيمودو"، لا يزال مختبئاً هناك. ومن "نوتردام إلى "الحي اللاتيني"، مع ظلال الرواية الإدريسية، ومع ليلى بعلبكي في روايتها "أنا احيا"، قاطعاً الدروب التي قطعتها، الواقعة خلف مقهى" الدوماغو"، والمنحدرة صوب نهر السين.
هكذا كنا، وهكذا كانت أحلامنا وأمانينا، وهكذا كان لبنان وكنتِ أنتِ يا باريس، فيا له من يوم مشؤوم، ذلك اليوم، الواقع في 22 تشرين الثاني 1943!

