نشرت بتاريخ السادس والعشرين من يناير (كانون الثاني) الماضي مقالاً في هذه الصحيفة بعنوان: «السعوديون ورئاسة المنظمات الدولية»، قصدت منه إشراك القارئ السعودي والعربي في تجربة شخصية استمرت خمسة عشر عاماً مديراً عاماً لمنظمة دولية هي صندوق أوبك للتنمية الدولي «أوفيد OFID» في فيينا. تمنيت في الفقرة الأخيرة من المقال أن أكون قد برهنت على مقدرة العنصر الوطني من إدارة مرفق دولي كهذا. من حسن الحظ أن المقال لاقى صدى عند كوكبة من الأصدقاء، وبعض القراء ممن أتحفوني ببعض التساؤلات لعلي أعرض وجهة نظري حولها:
أولاً: يقول من أكن له كل الاحترام والتقدير إن رئاسة المنظمات الدولية تجر وراءها «التزامات دولية ومالية»، وأقول هذا صحيح! لكن ما الخطأ في ذلك، إن فهمي لهذه المسألة هو ألا ربيع من دون مطر، كما تقول العامة. الدول التي تضع ضمن سياستها ما يعرف بالمسؤولية الدولية تدرك ذلك مقدماً، والسعودية من الدول التي أسست «أوبك» و«صندوق أوبك»، ولولا الإرادة السياسية لحكومة خادم الحرمين الشريفين لما قامت هاتان المنظمتان. وإذا قيض الله لأي منظمة من يقودها بحكمة وكفاءة ووعي بطبيعة المهمة الملقاة على عاتقه، فإن العائد السياسي والإعلامي للسعودية لا يقوم بثمن في دولة أصبحت في طليعة الأمم التي تؤثر في القرار السياسي العالمي. وعموماً ما يصح في زمنٍ قد لا يصح في زمنٍ آخر، ورحم الله من قال «عندما تتغير الحقائق أغير رأيي».
ثانياً: سألني أحد من قضى فترة في مهنة التعليم الجامعي عن المؤهل العلمي الذي ينبغي أن يحمله من يتولى رئاسة منظمة دولية، والجواب تحدده طبيعة المنظمة التي نحن بصددها، فعندما يتعلق الأمر بصناديق التنمية التي قوام نشاطها تمويل مشاريع التنمية، من المهم أن يلم القائد الإداري بأدوات التحليل المالي التي تساعده في فهم ما يعرض من مشروعات على مجلس المحافظين، لكن الوظيفة الأساسية لمن هو على رأس منظمة دولية، هي أن يدرك الفرق بين مسؤوليات القائد، وبين مسؤوليات المدير، وكم من رئيس يحمل درجة الدكتوراه أخفق في مهمته. وليت من يرشح لمنصب عال يخضع لامتحان حول ما أصبح شرطاً من شروط القيادة العليا، وهو مهارة الذكاء العاطفي أو «Emotional intelligence»، التي تعني أن يتعرف القائد الإداري على عواطفه ومشاعره الخاصة مع القدرة على التحكم فيها في علاقته مع الآخرين، ومن أهم عناصر هذه المهارة احترام القائد للوسط الذي يعيش فيه، وتمتعه بالمهارات الاجتماعية التي تمكنه من التفاعل مع مختلف الثقافات، وقد قضيت أسبوعاً كاملاً في مؤسسة «IMD» في لوزان مع خبراء الإدارة العليا، للتأكد من أن الأسلوب الذي أسير عليه في إدارة صندوق الأوبك «OFID» هو الأسلوب الأمثل. والخلاصة أن من يحمل «الدال» العتيدة لا يعني بالضرورة أنه قادر على إدارة أو قيادة منظمة دولية، وقد يكون قد ضل طريقه نحو منصب لا يتناسب مع تكوينه النفسي أو الاجتماعي. مع كل الاحترام لشهادته العلمية.
ثالثاً: التوظيف في صندوق «أوبك»:
أشرت في المقال إلى أن المادة الخامسة من النظام الأساسي تنظم وتوضح ما يتعلق بالتوظيف وتحصر الوظائف العليا للدول الأعضاء. وهنا أوضح لمن سألني عن الفرق بين التوظيف في «أوبك» و«أوفيد» بصفتي قضيت أربعة عشر عاماً محافظاً عن السعودية في «أوبك»:
في «أوبك»، هناك بعض الفئات من الوظائف محصورة للدول الأعضاء ترشح عليها من تنطبق عليه شروط الوظيفة. أما في «أوفيد» فقد اشترط النظام الأساسي قصر الوظائف العليا على مواطني الدول الأعضاء، ومنحهم الأفضلية في بقية الوظائف التي تخضع لعنصر المنافسة. وأذكر في هذه المسألة ما دار بيني وبين كل من الراحل الدكتور غازي القصيبي والدكتور إبراهيم العساف، أثناء وجودهما مع الملك عبد الله (رحمه الله) في فيينا عام 2004 حول هذه النقطة، عندما قاما بتزكية أحد الكفاءات السعودية، لكنهما اشترطا توفر شروط الوظيفة.
هذا التوضيح مهم لمن يظن أن الترشيح حق سيادي للدولة العضو بصرف النظر عن توفر شرط الكفاءة.
رابعاً: هناك من يسألني كيف تعاملت مع عمالة تنتمي لأكثر من ثلاثين ثقافة مختلفة؟ وأقول إنه لم يكن غريباً عليّ العمل مع غير السعوديين، إذ إن أربعين عاماً من الخدمة في وزارة البترول، منحتني قسطاً من المناعة ضد الصدمات الثقافية، ومع ذلك عندما اتضح لي أن موضوع العمالة أصبح صناعة مستقلة بحثت عن الحل، واستنجدت بالأخ المهندس خالد الفالح عندما كان رئيساً لشركة «أرامكو السعودية»، الذي رشح لي أحد موظفي الشركة في مكتب هيوستن، وهو خبير في كل ما يتعلق بالموارد البشرية كان خير عون لي في تحديث نظام الموظفين ووضع برامج تطوير الموظفين، وتكييف برامج التدريب تبعاً لحاجة وطبيعة العمل، واستقطاب الشباب ذوي المؤهلات العالية من الدول الأعضاء واستيعابهم بعد فترة تأهيل وتدريب، واستحداث ندوات أو حلقات لرؤساء الإدارات، اكتشفت من خلالها الحاجة الماسة لتأهيل الكثير منهم للتفكير خارج الصندوق، ومن حسن الحظ أن يصادف عقد إحدى الحلقات وجود محافظ المملكة فاصطحبناه معنا، وعاد بانطباع ممتاز كما علمت منه.
خامساً: سألني أكثر من قارئ للمقال عن الفرق بين صناديق التنمية والمؤسسات الخيرية، والجواب هو أن الصناديق - «أوفيد» مثل على ذلك - لا تمنح هبات، وإنما تقدم قروضاً ميسرة للدول المستفيدة، وهي قسمان دول متوسطة الدخل ودول منخفضة الدخل تبعاً لتصنيف البنك الدولي، وهذه تقترض لتمويل مشروع معين، لكنه قرض واجب السداد بعد عشرين سنة وفترة سماح مدتها خمس سنوات، إلا أن تكلفة القرض بالنسبة للدول منخفضة الدخل متدنية جداً، قد يصل فيها عنصر المنحة 40 في المائة.
لكن مما ميز «أوفيد» عن بعض الصناديق الأخرى هو وجود برنامج للمنح يستقطع بنسبة 13 في المائة من الربح الصافي للعمليات والاستثمار، هذه المنح على ضآلتها كان لها الأثر السياسي والإعلامي الأكبر على إبراز اسم الصندوق والدول الأعضاء، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية ومن ذلك:
1 - عندما سافرت إلى فلسطين في عام 2014، قدم لي المرحوم الصديق محمد السعدي شيكاً بمبلغ 150 ألف دولار صدقة تصرف على من نراه مستحقاً، صرفنا منها 12 ألف دولار للإفراج عن شهادة طالب فلسطيني تخرج من كلية الطب في القدس، وحجزت شهادته بسبب عدم تمكنه من دفع الرسوم. والباقي تم صرفه على أطفال غزة.
2 - منحنا الجائزة السنوية ومقدارها 100 ألف دولار للجراح مازن الهاجري من دولة الإمارات الذي يجري زراعة القوقعة بدون مقابل لأطفال غزة الذين فقدوا حاسة السمع جراء القصف الإسرائيلي الغاشم.
3 - منحنا الجائزة نفسها للفتاة السورية دعاء الزامل التي أبحرت مع مجموعة من اللاجئين وغرق المركب وتوفي خطيبها أمام عينيها، لكنها لم تستسلم بل أنقذت طفلاً مات والداه بعد غرق المركب، وقد تعرفنا عليها من خلال مكتب المفوض السامي للاجئين في جنيف.
4 - منحنا الجائزة نفسها لمركز السرطان في مصر ومسلمي الروهينغا في بنغلاديش وغيرهم كثيرين. ومع هذا يأتي من يتساءل إن كانت هذه المبالغ على صغرها بالقياس بما يتم تخصيصه سنوياً للقروض الميسرة تهدد الاستدامة المالية للصندوق.
سادساً: ولمن سألني عن علاقتي بمجلس المحافظين أقول إن المجلس من قسمين: قسم يقرأ ويناقش ويوجه وهم أربعة: ممثلو السعودية والكويت وإيران وإلى حد ما نيجيريا، وقسم صامت يغادر مقر الصندوق بعد تسلم بدل الانتداب. أما علاقتي بممثلي السعودية فهم أيضاً قسمان: قسم يعرف طبيعة المهمة التي من أجلها رشح للمنصب، وتحمل مداخلاته ومشاركاته نبرة إيجابية يسود فيها العقل والحكمة وحسن التصرف أمام الآخرين، والبعض الآخر للأسف يجهل ما أنيط به من مسؤولية، فتأتي مداخلاته حادة توحي للبعض أنه جاء لتصحيح مسار المؤسسة، مع أن المجلس الوزاري قد أثنى على سير العمل أكثر مرة. وحبذا لو خضع من يرشح للتمثيل في المجالس التي تضم ممثلين من دول أخرى لدورة تأهيل على يد من لديه الخبرة. وكم تذكرت وأنا أحاول إقناع أحدهم بوجهة نظري المثل العربي المعروف: ما هكذا تورد الإبل.
سابعاً: ولمن سألني عن موضوع الاقتراض الذي ظهر في وسائل الإعلام، أوضح أنه بدأ في عهد الإدارة السابقة، وذلك عندما تبين أن الدول الأعضاء ليست على استعداد لتغذية موارد الصندوق بشكل منتظم كغيره من صناديق التنمية، عندئذٍ بدأت الإدارة السابقة بالتفاوض مع الوزراء إلى أن صدر قرارهم في جلسة أدارها بكل اقتدار الدكتور إبراهيم العساف عام 2007 بعدها شرعنا في وضع الترتيبات اللازمة إلى أن نفذته الإدارة الحالية، وكان حصول الإدارة السابقة على المليار دولار عام 2011 الوارد في المقال السابق لمكافحة فقر الطاقة، أكبر سبب في حصول الصندوق على ما حصل عليه من تصنيف كما أكد لي هذا أحد الزملاء.
ثامناً: ولمن سألني عن الأوسمة التي حصلت عليها وأنا على رأس العمل، أقول إنني فعلاً حصلت على أكثر من عشرة أوسمة وشهادة دكتوراه فخرية، من بينها وسام من الحكومة الاتحادية النمساوية وآخر من مدينة فيينا، وهي مما أعتز به، لكن التكريم الذي أفخر به وأتركه إرثاً لأبنائي هو الثقة الغالية التي حظيت بها من حكومة خادم الحرمين الشريفين، عندما اختارتني لهذه المهمة النبيلة.
عود إلى رئاسة المنظمات الدولية
مواضيع ذات صلة

