عبدالحق عزوزي
لا يمكن للقوة المطلقة مهما كانت أن تصنع الشرعية لنظام ما في القرن الحادي والعشرين مهما توافرت على أدوات الردع، لأن قواعد علاقة الحكم بالمحكوم تؤطر اليوم بمسارات كانت غائبة في الزمن القريب، ولعل أقواها وسائل التواصل من إنترنت وهواتف التي أضحت هي الأكثر تأثيراً وتحريكاً للمجتمعات. وحين يقوم أي نظام سياسي باستعمال القوة فقط لتثبيت شرعيته، فإن بذور السلطوية قد تنمو داخل ذلك النظام. وهذا الكلام يقال ويعاد في أدبيات العلوم السياسية، وهو كلام مفهوم لأن الديمقراطية هي أولاً وأخيراً حكم الشعب بالشعب، كما أن الموافقة والتراضي هي مسائل أصيلة في ازدهار الديمقراطية.
وهذا الكلام قد يفهمه ويطبقه بعض الساسة وبناة المجال السياسي العام في عالم اليوم، وقد ينكره البعض الآخر في حالة عدم الوعي بخصائص أمور السياسة والحكم، ولعل التجربة الفنزويلية الحالية أقرب مثال على ذلك، ويكفيك متابعة قنوات الأخبار العالمية والجرائد والمجلات الدولية لتفهم ما يمكن أن يقع في عقل من لا تردعه دروس البارحة واليوم في مجال بناء الدول.. فسياسة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو قد أوصلت البلد إلى الهاوية.
وهذا الرئيس الذي طالما قدم نفسه على أنه الرجل الذي يحترم المبادئ الإنسانية وحقوق الشعوب، ينقلب على إرادة الشعب الذي عبرت غالبيته عن رفضها للجمعية التأسيسية... ومما يزيد الطين بلة أن العقوبات الأميركية على ذلك البلد قد توقف رئة اقتصاده، خاصة أن أميركا هددت الرئيس الفنزويلي بعدم شراء أربعين في المئة من الإنتاج النفطي للبلد.
إن بعض الإجراءات التحسينية والترقيعية، بل والمتطورة منها، التي تأتي بها بعض الدول، كخلق الجمعية التأسيسية في فنزويلا، أو إجراء انتخابات برلمانية وجهوية ومحلية في بعض أوطاننا، ليست هي الديمقراطية بذاتها... فالانتقال الديمقراطي هو أيضاً في حاجة إلى شرعية، وأصحابه يجب أن يعوا هذه المسألة جيداً، وأن يحافظوا عليها بكل ما أوتوا من ذكاء ودهاء، وبكل ما تعلمنا إياه تجارب الأمم السالفة ودروس العلوم السياسية الراسخة.
فعندما يأتي ساسة جدد في المجال السياسي العام، أو يقوم الساسة القدامي ببعض التحسينات الترقيعية، فهنا الواقعة، لأن ذلك لا يغني ولا يسمن من جوع، ولأن هؤلاء للأسف لم يعيدوا قراءة دور المؤسسات والدولة، ولم يُعمِلوا العقل السياسي الحقيقي في هذا المجال السياسي الجديد.
فالذي يحصل غالباً هو أن الساسة ومسيري الشأن العام لا يستبطنون فكرة ومفهوم الدولة، ولا يستبطنون تحويل النظام السياسي الجديد إلى مِلكية عمومية وليس إلى غنيمة انتخابية. ولا يستبطن السياسي مبدأ ضرورة تحويل النظام السياسي الجديد إلى مِلكية عمومية باسم الثقة بين الحكم وكل المحكومين، وباسم حكم الشعب بالشعب بعيداً عن الاحتكار السياسي المخرب، أو الاستئثار الفئوي أو المذهبي باسم الدين أو باسم مبدأ ما أو شعار لا يحظى بالإجماع الاجتماعي، ولا بالقبول داخل شواهد العلوم السياسية وإلا تظهر، كما يقع اليوم في بعض الأوطان، شمولية أخرى غير معلنة تصطدم مع المؤسسات والأفراد وتأتي على المصلحة العليا للوطن.
وطبعاً لا يمكن أن تنجح مؤسسة مصرفية أو مالية أو شركة دولية كبرى دون أن يكون عندها مستشارون وموظفون بنكيون وماليون وخبراء مقتدرون وذوو تجربة واطلاع وعلم اقتصادي ومالي ومصرفي وتسييري متميز. وإلا فإن ذلك القطاع مهما ضخ المال فيه، فإنه سيفشل وسيتوقف. والشيء نفسه بالنسبة لتسيير الدول، فقد تأتي صناديق الاقتراع بأناس رضيهم الشعب ممثلين له، لأنهم تفننوا في أساليب الخطابة، أو أن ماضيهم مفروش بمظاهر من الاستقامة المجتمعية والدينية، وكل هذا ليس فيه عيب بل هو محمود ومطلوب، ولكن إدارة الاختلاف داخل المجال السياسي العام، وتسيير المرحلة الانتقالية بهموم الثقل السلطوي السابق، وتدبير الأزمة المالية، وأزمة البطالة، وتلبية رغبات الشعب التواق إلى الحرية وإلى العمل وإلى السكن وإلى الحياة السعيدة، كل هذا يحتاج إلى علوم دقيقة شبيهة بالعلوم الرياضية لا تحتمل الخطأ إطلاقاً، وإلا وصلت الدولة عاجلاً أو آجلاً إلى النفق المسدود.