تتسارع الأحداث في باكستان التي تشهد منذ أسابيع أزمة سياسية عنيفة، وفي الوقت الذي يركز الإعلام على جوانب داخلية محدودة لهذه الأزمة، تؤكد الوقائع وجود أبعاد أخرى خارجية لها، ما يفرض بالضرورة إعادة قراءة الأحداث الجارية ضمن زاوية أوسع، تسمح حتى يفهم جوانب الأزمة الداخلية بشكل أعمق وتساعد في تبديد الضباب الذي يغطي المشهد الباكستاني. يسارع البعض إلى ربط الأزمة السياسية في باكستان بالحرب في أوكرانيا، وعلى الرغم من وجود هذا الرابط فعلا، إلا أن الأهم هو التذكير بأن حرب أوكرانيا نفسها جاءت لتعبر عن درجة تطور الصراع على المستوى العالمي، وتحولت حرب أوكرانيا إلى إعلان عن دخول هذا الصراع طورا نوعيا جديدا، وهو ما سيرخي بظلاله على العديد من الدول،. وإن كانت باكستان أولى هذه الانفجارات فبالتأكيد لن تكون آخرها. تذهب بعض التحليلات - وأهمها ما أشار إليه المحلل علاء أبوفراج - إلى أنه في الأسابيع الماضية ارتفعت دعوات من قبل قوى سياسية معارضة في باكستان لحجب الثقة عن رئيس الوزراء عمران خان، وساقت هذه القوى الأوضاع المعيشة المتدهورة في باكستان بوصفها دليلا على فشل رئيس الوزراء الحالي الذي شمل برنامجه الانتخابي وعودا براقة حول مستقبل باكستان الاقتصادي، ولذلك حشدت هذه القوى صفوفها داخل البرلمان للتصويت على حجب الثقة، وبدأت المسألة تأخذ طابعا خطرا بالنسبة لخان بعد أن شهدت صفوف داعميه بعض التصدعات وانتقل عدد من أعضاء البرلمان بشكل مفاجئ إلى تأييد التوجه نحو حجب الثقة، إلا أن عمران خان الذي رفض الخضوع لهذه الضغوط وأصر على المضي في المعركة السياسية حتى النهاية، تقدم بطلب لرئيس البلاد عارف الرحمن علوي لحل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة، وهو ما صادق عليه الرئيس الباكستاني. وعلى أساس هذه التطورات يفرض الدستور انتخابات برلمانية جديدة في غضون 90 يوما، ويمكن لنتائجها حسب ما يأمل خان أن تغير من توازنات القوى داخل البرلمان.
الإشارات الأولى للبعد الخارجي لهذه الأزمة جاءت على لسان رئيس الوزراء نفسه، فمع توتر الأجواء أعلن عمران خان أنه تلقى رسالة تهديد صريحة من قبل واشنطن والتي حملها سفير باكستان في الولايات المتحدة، حسب تصريحات رئيس الوزراء، ونقل الدبلوماسي الباكستاني عن «مسؤول أمريكي كبير» قوله إن العلاقات بين البلدين ستكون أفضل إذا ما «ترك رئيس الوزراء مهامه». تصريحات خان هذه التي نفتها واشنطن ليست خارج السياق على الإطلاق، بل على العكس، فرئيس وزراء باكستان يتعرض لضغوط كبيرة منذ مدة، تصاعد مع بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وخصوصا أن خان زار موسكو في صباح اليوم التالي لبدء المعارك على طول الحدود مع أوكرانيا، وأعلن من هناك تفهمه مخاوف موسكو الأمنية وأكد على ضرورة تطور العلاقات بين البلدين، ومع تطور الأوضاع أعلنت باكستان أنها تلقت مذكرة من سفراء الإتحاد الأوروبي للضغط على موقفها من هذا الصراع، وحثت المذكرة باكستان للانخراط في العقوبات على روسيا والتصويت ضدها في المحافل الدولية وهو ما ترفضه إسلام أباد وتؤكد في الوقت نفسه أن الدبلوماسية هي الحل الوحيد لإنهاء هذا الصراع لا العقوبات. وفي رده على هذه المذكرة صعد عمران خان من لهجته مؤكدا أن باكستان بلد مستقل يرفض الإملاءات، وسأل: «هل نحن عبيد لكم لنفعل ما تقولون؟»، في تأكيد جديد على التطور الذي تشهده السياسات الخارجية في باكستان، والتي بدأت تثير إزعاج الغرب وتحديدا واشنطن التي تصر على أن حياد باكستان وغيرها في الموضوع الأوكراني لا يكفي، بل ما ينبغي فعله بالنسبة لواشنطن وأتباعها هو أن ينخرط الجميع بحربهم ضد روسيا لا من أجل أوكرانيا، بل من أجل إعاقة تقدم خصوم الولايات المتحدة.
من ضمن ما يجري ترويجه في وسائل الإعلام هو وجود خلاف بين قائد الجيش قمر جاويد باجوا الذي أطلق تصريحات مؤخرا تنتقد العملية العسكرية الروسية، وعلى الرغم من أن باجوا لم يخرج عن السياق العام عن طرح باكستان إلا أن حدة خطابه وفي هذه اللحظات بالذات أعادت إلى الأذهان الخلافات السابقة بينه وبين رئيس الوزراء الحالي والتي تفجرت في أكتوبر الماضي، لكن الخلاف بينهما يبدو أكثر تشعبا ويتمحور حول قضايا ترتبط بتوجهات باكستان الجديدة. فباكستان بدأت تتخذ سياسة خارجية مختلفة تقوم على الابتعاد عن واشنطن، وتسارعت هذه العملية منذ انسحاب واشنطن من أفغانستان.
وهنا بدأ موقف باكستان يبدو أكثر وضوحا وباتت تعلن صراحة موقعها في الصراع العالمي، خصوصا أنها ترى مصالحها مرتبطة بالصعود الصيني والروسي في المنطقة، فباكستان رفضت مؤخرا دعوة واشنطن لحضور «قمة الديمقراطية» التي نظمتها إدارة بايدن لتؤكد إسلام أباد توجهاتها الجديدة، ومع بدء العملية العسكرية في أوكرانيا أعلنت الأولى حيادها ودعت إلى وقف إطلاق النار، وامتنعت عن التصويت ضد روسيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفي الوقت ذاته بدأت مشاريع ذات طابع إستراتيجي مع روسيا تعود إلى الواجهة، مثل خط أنابيب لنقل الغاز الروسي إلى باكستان، وكذلك مع الصين من خلال المشروع الاقتصادي الصيني - الباكستاني العملاقة طريق الحرير، وهو كما جاء في تعليق أحد السياسيين: «إنه متنفس الصين ومستقبل سيطرتها على العالم تجاريا، وأمريكا قبل أن تحارب الصين عليها إقفال أو تخريب خط الحرير الجديد، وإلا لن تستطيع هزيمة الصين، والخطوة الأولى لذلك هي إسقاط حكومة عمران خان والإتيان بحكومة موالية لواشنطن». فالمؤسسة العسكرية التي لعبت دورا كبيرا في تاريخ البلاد لاتزال تتمتع بنفوذ كبير وهذا ما يؤكد أنها لا تعارض هذه التحولات الجارية منذ سنوات، بل إن جزءا كبيرا من هذه المؤسسة تؤمن على الأقل بانتهاء دور واشنطن في المنطقة وتتصرف على هذا الأساس منذ سنوات، وينطبق هذا على قائد الجيش باجوا، فعلى الرغم أنه لا يزال يرى في واشنطن شريكا «إستراتيجيا» حسب تعبيره، إلا أنه لا يستطيع تجاهل وزن الصين في المنطقة، وظهر هذا واضحا في لقائه مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي منذ أيام، فتصريحات باجوا عقب اللقاء تؤكد مجددا ضيق مساحة المناورة في هذه اللحظات بالذات وهو ما ينعكس على أزمة باكستان السياسية، فالتحولات الكبرى في باكستان والتي تنقله من بلد دار تاريخيا في فلم الغرب إلى حيث تكون مصلحته في الشرق لن تمر بشكل سلس وسيصبح الموقف من هذه المسألة أحد أبرز جوانب الأزمة السياسية القادمة.