عام 1516 دخل العثمانيون إلى الشام بعد انتصارهم على المماليك في معركة مرج دابق، وكانت إمارة الغرب التنوخيّة في جبل لبنان لها وضعية مستقلة خاصة، لكنها كانت جزءاً من دولة المماليك، وهزيمتهم تعني اندثار هذه الخصوصية، فاقترح الأمير شرف الدين التنوخي الذي كان على علاقة وطيدة مع المماليك، أن يذهب وفد من العائلات اللبنانية كافة إلى دمشق لتهنئة السلطان سليم الأول برئاسة نسيبهم فخر الدين المعني الأول، من دون أن يشارك فيه التنوخيّون، لإنقاذ الإمارة، رغم اعتراض عدد من أفراد العائلة.
وهكذا كان واستمرَّت إمارة جبل لبنان بخصوصيتها، وبقيادة آل معن حتى انقراض نسلهم في عام 1698. وعام 1959، ذهب وفد كبير من لبنان إلى دمشق لتهنئة جمال عبد الناصر رئيس جمهورية الوحدة بين مصر وسوريا، وتعرَّض المشاركون فيه لانتقادات لاذعة بسبب استعجالِهم، واتُهموا بالتفريط بلبنان لمصلحة ضمه للجمهورية العربية المتحدة.
وألقى الزعيم الراحل كمال جنبلاط كلمة باسم الوفد أمام عبد الناصر، فاجأت الجميع، لأنه قال فيها: إن بقاء لبنان دولة مستقلة، يشكل غنى لدولة الوحدة وفيه مصلحة عامة للعروبة، برغم أن أصواتاً عديدة من القيادات اللبنانية كانت تطالب علناً بضمِّه للوحدة. وبالفعل فقد تأثر عبد الناصر بكلام جنبلاط وغيره من الأصوات اللبنانية المُشابهة، وأعلن تأييده لبقاء لبنان مستقلاً، وقد اتفق مع الرئيس فؤاد شهاب على اللقاء في خيمة على الحدود بين لبنان وسوريا في آذار 1959، تعبيراً عن احترامه لخصوصية السيادة اللبنانية.
زيارة وليد بك جنبلاط مع شيخ عقل الموحدين الدروز الدكتور سامي أبي المُنى على رأس وفد كبير ضمَّ رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب تيمور جنبلاط ونواباً ووزراء وفعاليات دينية وحزبية، فيه شيءٌ من الشبه مع ما سبق ذكره، وكان اختراقاً سياسياً لحصون دمشق الخارجة من قيود مؤلِمة استمرَّت على مدى يزيد على 54 عاماً، وقد يكون ما حُكيَ عن عَجَلة جنبلاطية غير محسوبة، لا يتطابق مع الواقع، وعلى العكس من ذلك؛ فقد فتحت الزيارة شهية آخرين للقيام بمثلها، وخرقت القيود السياسية والأمنية التي حاول البعض الإشارة لوجودها، كون الإدارة الجديدة في دمشق ما زالت تخضع لعقوبات دولية ولبعض الحصار العربي، وحاول البعض الآخر إيهام الرأي العام بأن رئيس هذه الإدارة أحمد الشرع "غير موثوق" أو غير مؤهل، ولا يمكنه أن يستمرّ بالقيادة لاحقاً. فجنبلاط بزيارته دحضَ كل هذه المُعطيات التشويشية، وأكد أن التغيير في سوريا أصبح ثابتة دامغة لا تراجُع فيها، والثقة بالشرع تتزايد يوماً بعد يوم.
أما نتيجة الزيارة فقد كانت هامة إلى حدود بعيدة، في الشكل وفي المضمون، وقد أطلَّ الشرع على الوفد بربطة عنق أنيقة لأول مرة منذ ظهوره على المسرح السياسي العلني، بينما جنبلاط لم يرتد "كرافات" وربما للمرة الأولى في مثل هذه اللقاءات الرسمية. وكان الارتياح بادياً على الجميع، والشرع وجَّه رسائل إيجابية مُتقدمة بعثت الاطمئنان عند اللبنانيين كافة، بمن فيهم البيئة الحاضنة لـ"حزب الله"، ورد بالإيجاب على كلام جنبلاط الذي تحدث عن التعامل المستقبلي بين الدولتين على أساس الاحترام المتبادل وعدم التدخُل في الشؤون الداخلية، والالتزام بمعايير قواعد العمل الديبلوماسي عبر السفارات بين البلدين الشقيقين.
وكان لافتاً في هذا السياق كلام شيخ عقل الطائفة الدرزية سامي أبي المنى في إشارته إلى العلاقة الروحية والأهلية مع دروز سوريا، بينما هم مواطنون سوريون بالمقام الأول، وينطبق عليهم القانون في سوريا كما ينطبق على المواطنين السوريين كافة، على أمل أن تلحظ القوانين الجديدة المنتظرة معايير المساواة بين الجميع من دون أي تفرقة.
نجح جنبلاط في توضيح هدف الزيارة، ونجح في الدلالة إلى نتائجها. فقد كانت زيارة تهنئة جريئة، وبوقتها المناسب، وفيها تأكيد للثقة بالقيادة الجديدة في سوريا على تنوعها، كما فيها رسالة رد واضحة على التدخلات الإسرائيلية العدوانية التي حاولت تشجيع الانفلات والفوضى، والإيحاء زوراً بأن الدروز والأكراد على تنسيق معها، وهم يخططون لإنشاء كيانات منفصلة عن الإدارة المركزية في دمشق، بينما الدروز كانوا من أكثر المُكونات السورية تمسكاً بالوحدة وبالعروبة وبالنظام المدني الديموقراطي اللاطائفي.
أما اللغط حول كلام جنبلاط عن مزارع شبعا، والذي حاول البعض استغلاله، فهو ليس جديداً على الإطلاق، وسبق لطاولة الحوار اللبناني في عام 2006، بحضور الأمين العام الراحل لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله، أن أكدته ذاته، ولحظه قرار مجلس الأمن الرقم 1680، بحيث إن ترسيم الحدود يحتاج لتوقيع الحكومة السورية، وهي تمنعت عن ذلك أيام النظام البائد.
القيادات السورية الجديدة ارتاحت للزيارة الاستثنائية الهامة، والوفد كان مُرتاحاً لما شاهده وسمعه في قصر الشعب في دمشق. والمُسيَّرات الجنبلاطية المدنية والشفافة، صوَّرت بهدوء تفاصيل مشهدية انتصار الثورة السورية بالكامل، ودخلت إلى الحصون التي كانت بالأمس القريب مُغلقة ومُخيفة وتؤوي تنوعاً هائلاً من المُستبدّين والمُستفيدين وحراس السجون وتجار الممنوعات.
والفرق كبير بين مسيَّرات الموت والاغتيال القاتلة، ومسيَّرات المحبة والتآخي والتعاون التي طيرها جنبلاط فوق مشهد النصر. ولم ينسَ جنبلاط طمأنة الجميع: بأنه يريد سوريا واحدة وقوية ومُتماسكة في وجه التحديات الكبيرة، ولا يريد الاستقواء بها على أحد، وسوريا الجديدة أكدت أنها ستحترم سيادة لبنان وإرادة أبنائه، وستتعامل مع الجميع بمحبة ووفقاً لمندرجات القوانين المرعية.