النزاع بين دوقة ساسكس، المعروفة بميغان ماركل، قرينة الأمير هاري، وصحيفة «الميل أون صانداي»، بلغ أوجاً درامياً يوم الخميس بحكم نهائي من محكمة الاستئناف في لندن لصالح الأولى، أثار ردود فعل متباينة، بين أقلية تهلل (من اليسار والصحف المنافسة)، وأغلبية بين محترفي الصحافة والمدافعين عن حرية الرأي واستقلال السلطة الرابعة. كما يطرح الأمر تساؤلات بعضها مقلق، بجانب إثارة قضايا في صميم العمل الصحافي، وعن واجبات والتزامات السلطة الرابعة كعين الشعب على المؤسسة الحاكمة وأصحاب النفوذ.
الصحيفة، وهي الأكثر توزيعاً بين الصحف الأسبوعية في المملكة المتحدة، كانت انطلقت في عام 1982 على يد اللورد روثيمير (1925 – 1988)، أحد أهم شخصيات شارع الصحافة البريطانية في القرن العشرين، كصحيفة الأحد، شقيقة لـ«الديلي ميل» التي تأسست في 1896، أصدرت بياناً قوياً صبيحة اليوم التالي (الجمعة)، «كان أمس يوماً طيباً للقوى التي تريد التغطية على الفساد، والظلم والنفاق. لكنه كان يوماً بالغ السواد بالنسبة للصدق، وحرية التعبير وحق الشعب في معرفة الحقائق».
من ناحيتها، أصدرت دوقة ساسكس بياناً شديد اللهجة، هاجمت فيه «صحافة التابلويد» (الصحافة الشعبية التي يقرأها غالبية الناس وينظر إليها المثقفون والصفوة باستعلاء)، وطالبت بحملة «لتنظيف الصحافة الشعبية وإجبارها على احترام خصوصية الناس». وأعاد هجوم الدوقة الأميركية المولد، التي اقتحمت عالم الشهرة في هوليوود كممثلة في المسلسلات التلفزيونية، للذاكرة، الهجوم الذي شنه خال الأمير هاري، تشارلز، إيرل (فيسكونت) سبنسر التاسع، عقب وفاة شقيقته الراحلة ديانا أميرة ويلز (1961 - 1997)، محملاً الصحافة مسؤولية موتها واتهام الصحافيين «بمطاردتها حتى الموت». وكانت الراحلة ديانا أصيبت بجروح مميتة في حادث مرور في نفق في باريس من 24 عاماً. ورغم أن بعض مصوري الصحف كانوا يتبعون السيارة، فقد كشف التحقيق أن السائق، الذي كانت نسبة الكحوليات في دمه أعلى من المسموح بالقيادة الآمنة، سار بسرعة جنونية.
الحادث كان له وقع أليم على الأميرين ويليام وهاري، وكان الأخير لا يزال في الثانية عشرة عندما اضطر للسير وراء نعش أمه متماسكاً، كابتاً لمشاعره، مما سبب جرحاً نفسياً عميقاً. ورغم تعاطف الكثيرين مع الأمير هاري في علاقته المعقدة مع الوسائل الصحافية، فإن الأغلبية من المراقبين ومتخصصي الصحافة، يعتقدون أن زوجته تخوض المعركة مع الصحافة البريطانية كجزء من عملية علاقات عامة واسعة النطاق، خصوصاً أنها تعطي المقابلات أمام الكاميرات التلفزيونية، وللصحف والمجلات في مناسبات تتصادف مع أعمالها الفنية أو لصحافيين من أصدقائها.
الحكم الأخير، عليه علامات استفهام، لأنه في الحقيقة لم يغير شيئاً في قوانين الخصوصية والملكية الفكرية، لكنه أصاب المدافعين عن حرية الصحافة بقشعريرة، ليس فقط لأنه، مثلما جاء في بيان الصحيفة، سيغل أيدي الصحافيين في نشر المرسالات الخاصة للمسؤولين والمشاهير في حالة تطلب المصلحة العامة الشفافية فحسب، بل لأن المعركة التي صعدتها دوقة ساسكس تشبه المعركة التي أثيرت قبل سبع سنوات حول اتهامات التنصت على مكالمات الساسة، واستغلت لتقييد العمل الصحافي، وعاود البعض اتهام الصحافة بالتسبب في موت ديانا. وما بين الحدثين (1997 و2021) كانت هناك علامة أخرى على طريق محاولة المشاهير وأصحاب النفوذ، والمؤسسة الحاكمة، تقييد أيدي الصحافيين في التحقيق فيما يهم الرأي العام. كانت هناك قضية أيضاً تتعلق بالخصوصية في 2008، رفعها ماكس موزلي (1940 -2021) رئيس مؤسسة «السيارات الدولية وسباقاتها» ضد صحيفة «نيوز أوف ذي ورلد»، يحاول منعها من نشر مقالة تتضمن صوراً له في حفلة ماجنة، وكان يرتدي ملابس ضابط نازي. القاضي لم يقبل دفاع الصحيفة بأن نشر صور موزلي هو في الصالح العام، لأن والده السير أوزولد موزلي (1896 -1980) كان ذا ميول نازية وصديقاً لأدولف هتلر (1889 – 1945) ومؤسس حركة «القمصان السود» الفاشية. وحكم القاضي بأن الصحيفة انتهكت خصوصية ماكس موزلي.
وهناك فوارق بين قضيتي ميغان دوقة ساسكس، وقضية موزلي، فالأخيرة كانت محاكمة كاملة بمرافعات محامين، كما أن القاضي رفض طلب المدعي بمنع النشر، لكنه وضع سابقة مقيدة للصحافة، وهي ضرورة أن تخبر الصحيفة الشخص المستهدف مقدماً قبل النشر.
ميغان بدأت دعواها بعماد نشرت «الميل أون صانداي» في 2018 مقاطع من خطاب كانت الدوقة أرسلته إلى والدها، اعتبره القراء لا يليق بأن ترسله ابنة لأبيها. القاضي في جلسة الإجراءات الأولية في المحكمة العليا اعتبر الخطاب ملكية خاصة لميغان، ونشر الصحيفة بلا إذن يعد خرقاً؛ أي أن الصحيفة «مذنبة» بلا قضية ومرافعات محامين.
الصحيفة استأنفت الحكم بناء على الطعن في شهادة ميغان في 2018 بظهور بريد إلكتروني وجهته ميغان إلى مديرة علاقتها العامة يشير إلى نيتها في أن يصبح الخطاب علناً، لأنه سينشر في كتاب قادم.
رأي قاضي الاستئناف أيضاً يوم الجمعة – أن ميغان ارتكبت الخطأ في شهادتها الأصلية «بنية سليمة»، أثار التساؤلات. وإذا لم تلجأ الصحيفة إلى استئناف جديد أمام المحكمة السامية (supreme court) – أعلى سلطة قضائية وهي فوق المحكمة العليا التي أصدرت حكم 2018، فقد تجد الصحيفة نفسها مضطرة للاعتذار علناً، وأن تطبع مقالة بالحجم نفسه والحروف نفسها تعتذر بأنها أخطأت في نشر الموضوع الأصلي، مما يدق مسماراً آخر في نعش حرية الاستقصاء الصحافي.
أول من أمس، سألنا المتحدث الرسمي لرقم 10 داوننغ ستريت عن رد فعل الحكومة للحكم القضائي. فقال إن مكتب رئيس الوزراء يدرس الحكم وأبعاده ونتائجه بدقة، وهذه الحكومة تعي أهمية دور الصحافة الحرة كركيزة أساسية للديمقراطية، وكسلطة رابعة تحاسب المسؤولين والمؤسسة الحاكمة أمام محكمة الرأي العام.
ورغم أن تصريح داوننغ ستريت مطمئن بعض الشيء لكنه غير كافٍ؛ فهل هناك بالفعل خصوصية في عصر وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع غير الخاضعة لقوانين ومحاكم يضطر الصحافيون للالتزام بها؟
مؤسس «الديلي ميل»، المحامي الفريد هارمزورث، فيما بعد اللورد نورثكليف (1865 - 1922) يعتبره مؤرخو الصحافة أهم وأعظم صحافي وناشر خطت قدماه فليت ستريت (أشهر شارع صحافة في العالم) هو صاحب أهم تعريف للخبر الصحافي كدور السلطة الرابعة في تسليط مصباح الشعب على الحقيقة «معلومة يحاول أحدهم إخفاءها عن العالم، وما عدا ذلك فهو إعلانات».