: آخر تحديث

كيف انتصر الجهل في العراق

51
46
41
مواضيع ذات صلة

لا أعرف كم بقي من المثقفين العراقيين الذين لم يرضعوا من حليب الميليشيات. ولكني أعرف أن المئات منهم جاعوا وباعوا كتبهم وتشردوا، حتى خلت الساحة لما بقي من أنصاف. وطغت قضايا أخرى مع طغيان العنف والفساد، فأسقطت كل ما اعتلى ذلك الصرح المجيد الذي أنتج قائمة الأسماء الطويلة لمثقفي هذه البلاد.

ويا الله كم كانوا كثرا. ويا الله كم كانوا يشقون من الطرق ما لم يُشق من قبلهم، من محمد مهدي الجواهري إلى معروف عبدالغني الرصافي وجميل صدقي الزهاوي إلى بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري. ومن عبدالوهاب البياتي وسعدي يوسف ويوسف الصايغ وحميد سعيد إلى مظفر النواب وعريان السيد خلف وكريم العراقي وفاضل العزاوي وصادق الصايغ وزهير الجزائري ورضا الظاهر وعلي جواد الطاهر وفوزي كريم ومحمد الجزائري وياسين النصير وسامي مهدي، ثم عدّ، لو شئت أن تملأ هذه الصفحة بكبار الأسماء الأخرى التي راكمت، جيلا بعد جيل، مجدَ ثقافةٍ وفكر وأدب أقرب في شمله واجتماعه إلى المعجزة.

المئات منهم احتشدوا بأسمائهم ليبنوا منارة تشع في كل الأرجاء، وما كان أعلاها. وكان لكل منهم رايات ترفرف حتى لتظن أن العراق جنة من جنات الخلد في الأدب والفن.

تاريخ العراق يغص بالفشل السياسي. كما يغص بمن اعتلوا الصرح المجيد الذي صنع له تاريخا

من سبق جواد سليم الذي أقام نصب الحرية، فعاد رمزا ومكانا لاجتماع الباحثين عن الحرية؟ ومن سبق فرقة “مسرح الفن الحديث”، ليقول للمسرح العربي كله، ها هنا المدرسة الأوفى، وها هم معلموها وروادها الكبار من سامي عبدالحميد ويوسف العاني وخليل شوقي إلى إبراهيم جلال وكريم عواد وفاروق فياض وفخري العقيدي وقاسم محمد وبدري حسون فريد وجعفر السعدي وفوزية عارف وزينب وناهدة الرماح وفاضل خليل وعوني كرومي.

لقد كانوا صانعي حياة. شعلة تنير الظلمات في المجتمع والسياسة، وتحرث أرضا للأمل.

ولكن لم يمض وقت طويل بعد أن أتم الغزاة غزوة الجهل والفساد الصفوي، حتى بدأت تطوف الترهات وتسبح لتقول لهذا العراق وبقايا شعبه “مثل النجس بالماي، جيتك مطوّف”.

وما من مفر من الاعتراف بأن الحزب الشيوعي العراقي كان هو رائد الصرح المجيد، وهو منشأ توليده وتجديده، وميدان كل المعتركات، حتى ليستغرب المرء كيف تحررت الثقافة لتندفع في كل آفاق الإبداع، بينما ظلت الستالينية السياسية قائمة فيه؛ كيف كان المبدعون في الشعر والنقد والرواية والفن، يتزاحمون ويؤلّفون الجمهرة النفيسة، بل الجمرة المتقدة، بينما كان حزبهم يتعثر في السياسة إلى حد العماء.

هذا كله ضاع. وضاع معه ذلك الحزب نفسه عندما صار يلطم على الحسين تماشيا مع السائد، وعندما وجد نفسه منخرطا في عملية سياسية لم يجن منها إلا الفشل والخسران حتى لكأنه ليس أبا ذلك الصرح، أو حافزه ومحركه.

لقد كان قوة تنشد التغيير، فكرا، ولو بفشل التنظيم والسياسة. وكلما زادت القسوة عليه، كانت الثقافة هي الرد، وهي التحدي، وهي قول البقاء.

ولم يكن بوسعه، بفضل إرثٍ ضاغطٍ، أن ينحدر إلى القاع، فعاد ليتمرد. ظاهريا، فعل ذلك احتجاجا على دولة الفساد والمحاصصة الطائفية، ولكن باطنيا لكي يتخلص من تحالفه المخزي مع “التيار الصدري”.

ما يسود اليوم من “شعبوية” ضحلة، هو في الواقع نتاجٌ لذلك الضياع، وثمرةُ الفوضى التي أغرق الحزب الشيوعي العراقي نفسه فيها عندما اختلطت عليه الأولويات، بل وعندما أضاع الوطنية مرتين. مرة في مواجهة الغزاة الأميركيين حتى انتهى إلى التجالس في مجلس حكمهم. ومرة عندما ظن أنه يستطيع، بدوافع النمط الانتهازي من مبررات البقاء، أن يلتحق بالفئة الطائفية الخسيسة التي هيمنت على العراق.

افتراض “الشطارة” بحثا عن موطئ قدم بين الأنذال، أوقع مثقفيه في مستنقع ما كان ليخرج منه فكر ولا أدب. كان الأمر أشبه بانزلاق العجلات خارج السكة، فقتل وجرح كل راكبي القطار.

يسود الجهل في العراق بسبب اندحار مثقفيه وتراجع مكانتهم. وهو حادث مؤسف صنعه حزب الثقافة والفن والأدب دون سواه.

شيء ما كان يمكن أن يستدعي رمي لجنته المركزية كلها بالشط. ليس لأنها اختارت السبيل الخطأ، بعد السبيل الخطأ، قبل الغزو وبعده، بل لأنها كما الأم التي قتلت أطفالها واحدا واحدا، من أجل موطئ قدم في المزبلة.

الثقافة تنمو في بيئة الحرية فقط. وحيثما كان المتنفسُ العام يضيق حتى الاختناق، فقد كان الحزب الشيوعي نافذة سريّة تتفتح من خلالها كل الأزهار. تُبهجه وتبتهج به، علنا حينا، ومن وراء ستار في معظم الأحيان. تنقده، وتتحداه وتخرج عن طوعه، ويظل يعتبرها طفله الأثير. وما من مثقف وجد نفسه، في هذا السياق، “إبنا عاقا” حيال المسافة بينه وبين مسقط رأسه، على الإطلاق، ولو تمردَ أو عقّ.

وفي المأساة التي انتهى إليها العراق، ولدت انتفاضة تشرين لتحيي ما كان قد شارف فيه على الوفاة. كانت صفعةَ صحوٍ لتقول لحزب التغيير، أن أخرج من المستنقع الذي أغرقت نفسك فيه. فإن لم تجد أرضا في السياسة، لعلك تجدها بين أغاني المحتجين وهتافاتهم وقصائدهم القصيرة.

ليس عجيبا أن تكون المتنفس من جديد لحركة تحررٍ ثقافي تنقلب على المجرى الطائفي القائم.

فرقة مسرح واحدة كانت تكفي في الأيام الخوالي لتحشد الآلاف من القناعات والتصورات المختلفة. وتقترح نقدا للسائد، وتستجلب رؤى أخرى للحياة.

ما من مفر من الاعتراف بأن الحزب الشيوعي العراقي كان هو رائد الصرح المجيد، وهو منشأ توليده وتجديده، وميدان كل المعتركات،

هذا هو الميدان. ليس مطلوبا أكثر منه، ليس بالضرورة ليكون حزب سلطة (أعوذ بالله)، وإنما ليكون حزب تغيير في الثقافة. حزب فكر وفن وأدب.

إذا كان ذلك هو أفضل ما فيك، وأعظم ما تمتلكه في فلسفة البحث عن نقاء، فلماذا تفعل شيئا آخر؟

تاريخ العراق يغص بالفشل السياسي. كما يغص بمن اعتلوا الصرح المجيد الذي صنع له تاريخا آخر.

والمفارقة العجيبة هي أن الحزب الشيوعي العراقي، وحده إلى حد بعيد، هو المسؤول عن هذين التاريخين. مسؤولٌ أيضا عن بؤس النتائج والخلاصات.

ولا عجب أن ينحدر العراق من مأساة إلى أسوأ منها. ومن انحطاط إلى آخر أعمق عندما ضاع الاتجاه بهذا الحزب بالذات.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد