إيلاف من البندقية: أن تقدم فيلماً عن الحرب بلا مشاهد حرب، هكذا تضمن الفيلم الإيطالي الجديد "Campo di Battaglia" (ميدان المعركة) الذي عُرض للمرة الأولى ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية السينمائي الدولي في نسخته الـ81، وهو من إخراج المخرج الإيطالي المخضرم جياني أمليو في سابع حضور له في مهرجان فينيسيا.
المخرج الحائز على جائزة الأسد الذهبي قبل 26 عاماً من "البندقية" يصحبنا في تجربته الجديدة لفيلم درامي تاريخي يعود بنا إلى أواخر الحرب العالمية الأولى، حيث يتناول الأثر النفسي والأخلاقي للحرب على الأطباء العسكريين الذين يُعهد إليهم معالجة الجنود المصابين.
تبدأ أحداث الفيلم في عام 1918، خلال الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الأولى. وبعيداً عن ساحات المعارك وويلات الحرب، يركز الفيلم على الصراع الداخلي الذي يعيشه طبيبان عسكريان يعملان في مستشفى قريب من الجبهة. داخل المستشفى يصل جنود لتلقي العلاج، لكن بعض هؤلاء الجنود تكون لديهم عدم رغبة في العودة للحرب مجدداً، بل أصابوا أنفسهم بإصابات حاولوا من خلالها جعل أنفسهم غير قادرين على استكمال المعارك.
يؤدي غابرييل مونتيسي دور ستيفانو، وأليساندرو بورغي دور جوليو، وهما صديقان منذ الطفولة ويعملان الآن كطبيبين داخل المستشفى، لكنهما يجدان معظم الجنود الذين يعالجونهم يعانون من جروح ذاتية سببوها لأنفسهم للهروب من ساحة المعركة.
يرى ستيفانو أن ما فعله الجنود خيانة، فيقوم بتسريح المرضى والتأكيد على صلاحيتهم للعودة للمعركة، لكن صديقه جوليو يصطحب العديد منهم داخل المستشفى ليزيد من سوء جروحهم إلى الحد الذي لا يمكنهم معه العودة إلى الجبهة.
في المقابل، تقف آنا (فيديريكا روسيليني)، وهي ممرضة في الصليب الأحمر، بجانب أفكار ستيفانو حول الجنود. وعندما تُكتشف أفعال جوليو، تتعرض علاقته مع ستيفانو وآنا للخطر، وكذلك نزاهته المهنية.
من بين الاختلافات البارزة عن الرواية الأصلية المأخوذ عنها الفيلم اختيار أمليو لبطلي الفيلم، خاصة ستيفانو الذي كُتب في الأصل كشخصية أقل جاذبية مما يبدو عليه غابرييل مونتيسي. أما أليساندرو بورغي، فيجسد شخصية جوليو الأكثر تعقيداً وذكاءً بطريقة مميزة، ويجذب الأنظار بشخصيته المثيرة للاهتمام، التي تتصرف جزئياً من منطلق التمرد على الدور الذي اضطر إلى لعبه. وكما هو متوقع، ينتشر بين الجنود المصابين السمعة التي اكتسبها جوليو، فينكشف أمره في النهاية.
لكن فجأة، يبدأ وباء إنفلونزا خطير في الفتك ليس فقط بالجنود، بل بالسكان المحليين أيضاً. ومع انتهاء الحرب، تبدأ معركة أخرى، مما يجبر الأطباء على إعادة تقييم دوافعهم.
استخدم الإيطالي المخضرم جياني أمليو في الفيلم لوحة ألوان خافتة يغلب عليها اللونان الرمادي والأزرق، مما يعكس الأجواء القاتمة والمأساوية المحبطة التي تحيط بالشخصيات. الإيقاع البطيء والمتزن للفيلم كان من عيوبه، على الرغم من أنه خلق جواً من التأمل العميق.
أحد العناصر البارزة في الفيلم هو استخدام الأقنعة الطبية، لما لها من أثر في تعزيز الإحساس بالعزلة والتوتر الذي تعيشه الشخصيات. فاختلاف صفات الطبيبين والتفاعل بين الشخصيتين عكس بوضوح التوترات الداخلية التي تغذي القصة.
"Campo di Battaglia" هو عمل سينمائي أصيل وكلاسيكي يعكس مرة أخرى براعة جياني أمليو في تناول القضايا الإنسانية العميقة من خلال عدسة تاريخية. على الرغم من بعض العيوب، وأهمها السرد الطويل، فإن الفيلم يقدم تجربة سينمائية ثرية تجمع بين الأداء القوي والمواضيع الأخلاقية المعقدة.
في المؤتمر الصحفي الذي أُقيم على هامش عرض فيلم "Campo di Battaglia" في مهرجان فينيسيا السينمائي لعام 2024، تطرق المخرج جياني أمليو إلى عدد من النقاط الرئيسية حول الفيلم ورؤيته الفنية، إذ أوضح أن الفيلم لا يتعلق فقط بالحرب، بل يركز بشكل كبير على الصراعات الأخلاقية والإنسانية التي يواجهها الأطباء في زمن الحرب.
تناول الصحفيون أسئلة حول كيفية اختيار أمليو للمواقع التي تم تصوير الفيلم فيها، حيث كشف عن أنه اختار مواقع في منطقة فريولي فينيتسيا نظراً لأهميتها التاريخية خلال الحرب العالمية الأولى.
كما تطرق إلى موضوع التعاون مع الممثلين الرئيسيين مثل أليساندرو بورغي وغابرييل مونتيسي، وكيف ساهموا في تقديم أداءات تعكس التعقيد النفسي لشخصياتهم.
يؤكد بورغي أن دوافع جوليو في الأحداث مفهومة، فهو يبدو وكأنه البطل في القصة، يفعل كل شيء لإعادة الجنود إلى المنزل، مشيراً إلى أنه كأب، يسأل نفسه: هل سيكون سعيداً لو حدث هذا لابنه؟ وهل الأفضل إنقاذ الحياة أم الحفاظ على السلامة الجسدية؟ وإلى أي مدى يكون من الإنساني أن تحرم شخصاً من حاسة البصر مقابل وعده بالخلاص؟ أسئلة يرى في إجابتها مبررات لدوافع جوليو في الأحداث.