في زمن يُقال فيه إن الورق يندثر ويُستبدل بالرقمنة، تُطل الصحيفة، هذا الأثر الحجري لعصر الحداثة، لتذكّرنا بعبثية المصير الإنساني. كما لو أن كامو يهمس من بعيد: "الإنسان يتمرّد، إذن هو موجود"، فالصحيفة تتمرّد على تقادمها بإيجاد حياة أخرى في جيوب العمّال وعلى طاولات المطاعم وفي لفائف السجاد.
ألم يكن عمّال المصانع، ببدلاتهم الصوفية وصحفهم المطوية على الصدر كدرع ضد ريح الشمال، يطبّقون عمليًا نصيحة ميكافيلي بأن الغاية تبرر الوسيلة؟ لم تكن الصحيفة آنذاك أداة إعلام فحسب، بل كانت درعًا واقيًا، خشبة خلاص ضد قسوة الطبيعة. كم من صحيفة خاضت معركةً لم تُقرأ فيها كلمة واحدة، ومع ذلك ربحت الحرب ضد البرد.
وفي زمن الحرب، حين كانت المجاعة أصدق من البيانات الصحفية، تحولت الصحف إلى وقود تحت وطأة الضرورة. كما يقول ماركس: "الإنسان يصنع تاريخه، لكن ليس كما يشاء". فإذا لم تقرأ الجريدة، أحرقتها، وإذا لم تحرقها، أكلتها العثّة – وهي حشرة صغيرة من رتبة الفراشات، تشبه الفراش ولكنها أصغر حجمًا وأقل جمالًا. تعيش العثّة عادةً في الأماكن المظلمة والرطبة، وتشتهر بقدرتها على إتلاف الملابس، السجاد، والأقمشة المصنوعة من الصوف أو القطن، لأنها تتغذى على المواد العضوية الموجودة في الألياف – ولعل الصحف التي قُدّر لها أن تنتهي في المراحيض بدل العقول كانت الأكثر صدقًا، لأن وظيفتها حينها كانت أكثر فائدة من وعود الساسة التي طُبعت عليها.
إقرأ أيضاً: الفن: الكذبة التي تقرّبنا من الحقيقة
ثم تأتي سخرية القدر في كرنفال فياريجيو الإيطالي، حيث تتحول الصحف إلى دمى مضحكة لسياسيين أكثر هزالة. هنا يتجلى قول نيتشه: "الإنسان شيء يجب تجاوزه". يتجاوز الورق ذاته من وسيلة إخبارية إلى وسيلة ترفيهية، لكنه لا ينجو من دائرة عبثية مكتملة: من الصحافة إلى الورق المعجّن، إلى الفولكلور، إلى السياحة، ثم عودة إلى الصحافة. وكأن الصحف تعيش نسختها الخاصة من أسطورة سيزيف.
وإذا كانت الصحف القديمة تحمي السجاد من العث، فربما لأنها تحتوي من السموم السياسية ما يكفي لتسميم الحشرات. ومن الطريف أن تكون الصحف اليسارية أشد كفاءة في هذا الأمر من الصحف اليمينية، كأن العثّ ينحاز أيديولوجيًا. ألم يقل سارتر: "الجحيم هو الآخرون"؟ حتى العثّ له ميول سياسية!
أما استخدام الجريدة كورقة للف الكستناء الساخنة أو كحماية للأرضيات من رذاذ الطلاء، فهو تذكير عبثي بفكرة ماركوز: "السلعة تُعيد تعريف ذاتها في دورة الاستخدام". فالصحيفة لم تمت، بل أعادت تشكيل نفسها في دورة من العبودية والاستهلاك.
إقرأ أيضاً: الأدب اليوم
حتى في المطار أو القطار، تظل الصحيفة سلاحًا اجتماعيًا متعدد الاستخدامات. ترفعها عاليًا كراية للتعريف بنفسك، أو كحاجز دفاعي لصد متطفلي المقاعد المجاورة. وكأنك تقول بصمت مع شوبنهاور: "الجدران تحميني من ضجيج العالم".
وفي النهاية، أليس من قمة العبث أن تظل الصحيفة، بعد كل هذا التاريخ من الاستخدامات النبيلة والدنيئة، أكثر فائدة حين يعاد تدويرها؟ إنها دورة حياة ساخرة تليق بهيغل، حيث كل نفي هو مقدمة لإثبات جديد.
فلتُحفظ الصحف، لا كأرشيف للأخبار، بل كأرشيف لعبث الإنسان ومقاومته لأقداره.