حاول مجموعة من المفكرين العرب الكتابة حول العقل العربي، وكأن العقل العربي الجمعي هو عقل واحد وليس عدة عقول. إنَّ أبرز من كتب في هذا المجال كان المغربي عابد الجابري، المفكر الشهير، وأخذ الكثير من الكتاب يدبجون العقل العربي بنعوت كثيرة ومختلفة، والحقيقة أن العقل العربي الجمعي هو عقل عربي فردي، لأن كل مجموعة ممن يطلق عليهم العرب اليوم هي جماعة ذات عقل جمعي واحد متشابه، وليس كل العرب عربًا.
ولأن الأمة العربية هي من عدة عروق وأصول وجذور تشكلت عبر الفتوحات العربية لبلاد الشام والعراق وفلسطين ومصر وبلاد المغرب العربي تحت راية الإسلام، استطاعت أن تتعرّب هذه الشعوب المستعربة بلسان واحد ودين واحد، إلا أن الاختلافات بقيت كامنة تحت العروبة القشرية والإسلام العميق. فإذا أردنا أن نعرف ونفند العقل العربي، علينا أن نعيده إلى أصله الأساس ونضعه في وحدات متشابهة تحمل كل واحدة منها الجذور الحقيقية لكل فئة.
للعرب عدة عقول، فهناك العقل العربي المصري الفرعوني السوداني، وهناك العقل العربي العراقي الممزوج بالفارسي، وهناك العقل العربي الشامي الممزوج بالروماني الصليبي التركي، وهو ما يطلق عليه العقل الفلاحي نسبة إلى فلاحي سوريا ولبنان وفلسطين وأجزاء من الأردن، وهناك العقل العربي الكردي، والعقل العربي المغربي الأمازيغي، ثم العقل العربي العربي المتمثل بالقبائل البدوية التي حافظت على سماتها وخصائصها ولهجاتها.
لقد فشل أغلب الذين درسوا العقل العربي في الوصول إلى ماهية العقل العربي الجمعي، بينما لو درس العقل العربي بمشكلاته وطبائعه بشكل فردي، لكانت النتائج أكثر إيجابية وفهمًا لما يحصل في ربوع العقل العربي الجمعي اليوم. ومن هنا انعكس ذلك جليًا على العلاقات العربية - العربية بين الدول، وانعكس كذلك على الجامعة العربية المشلولة حاليًا.
إقرأ أيضاً: السعودية والاعتراف بإسرائيل
إنَّ كل فئة من فئات المجتمع العربي المذكورة آنفًا تختلف عن الفئة الأخرى اختلافًا كليًا، خصوصًا إذا أردت أن تعرضها على المبادئ الرئيسية والقيم البارزة المعروفة عن العرب الأقحاح، كخصائص واضحة من الكرم والشجاعة وإغاثة الملهوف وحماية الدخيل ومناصرة الجار والفروسية والشهامة والإقدام. فإذا كانت هذه الصفات هي المميزة لعرب الصحراء الذين كانوا أساس هذه الأمة، فإن هذه المميزات البارزة تكون متوفرة في بعضها أو كثير منها أو قليل في كل فئة من فئات ما يطلق عليهم اليوم العرب، ولكنها ليست متوفرة بأكملها في أي فئة من الفئات العربية التي ذكرت سابقًا. فيمكن أن تجد المروءة في شعب عربي، والشجاعة في شعب عربي آخر، والكرم في ثالث، ولا تجد الفروسية في فرع رابع، وهكذا.
إقرأ أيضاً: العرب والخديعة الكبرى
لذلك، فالعرب اليوم من جميع الأعراق هم الناطقون بالعربية وليسوا العرب الأقحاح. من هنا يكثر اللغط على العرب الأصليين والاستهزاء بهم لأنهم أصبحوا أقلية في دنيا العروبة الحديثة، منذ أن انتهى العصر الأموي واستولى العباسيون على السلطة بقوة السلاح، واستبعدوا العنصر العربي من دوائر الحكم العباسي مقابل العنصر الفارسي ثم التركي ثم الاعتماد على أبناء كل شعوب الأقاليم والأمصار المفتوحة آنذاك، وتهميش العنصر العربي خوفًا من بقايا منافسيهم الأمويين. عندها أصبحت العرب المستعربة كثرة غالبة مقابل أقلية من العرب الأقحاح. ولأن عرب القبائل هم ملح الأرض ومادة العروبة وأصل اللغة والعادات الحميدة، فقد اكتفوا بذواتهم وانعزلوا عن محيطهم العربي المستعرب، وكل فئة دخلت العروبة منذ الفتح العربي أخذت المبادرة لتدعي لنفسها أنها أصل العروبة وقلبها النابض، فضاعت الحكاية بين العرب العاربة والعرب المستعربة وطغى صوت العرب المستعربة على جذور العرب العاربة، مما أدى بالعرب اليوم بمجملهم أن يكونوا في آخر الركب العالمي لضياع البوصلة وادعاء الجميع أنهم أصل العرب. ولن تقوم للعروبة قائمة ما لم يعرف كل فرع من فروع العربية الحديثة أنه لا نجاة إلا بمعرفة حقيقة الأشياء وأصل الأشياء وكيف تكونت، وأن يعود العرب الأقحاح لقيادة العرب العاربة والمستعربة معًا نحو النهضة والعروبة الحقة ومستقبل مجيد كما كنا في الماضي، والله من وراء القصد.