: آخر تحديث

ما بين الأمس واليوم أكثر من مجرد «و»...

19
19
20

يشهد لبنان انقسامات لعلها رافقته منذ ولادته الثانية إثر الحرب العالمية. انقسامات تكاد تكون هي الميزة الوحيدة المستمرة من تراثه الحديث كدولة بحدود لبنان الكبير؛ لبنان "الكبير" الذي كان كبيرًا بكل سلبياته، ولم يكبر يومًا بإيجابية إلا قليلاً.

والذنب هنا ليس ذنب لبنان، فهو لا يكاد يكون إلا مصطلحًا أُعطي لهذه البقعة الجغرافية، أو الأرض، بما يعلوها من سماء، ويقرّبها من بحر، من دون أن يكون له رأي في من يستوطن أرضه، أو من يتخذه وطنًا أو مجرد مستقر.

ولبنان، الكرة التي تتقاذفها الدول الكبرى والسياسات الإقليمية، يكاد يقضي عليه ضنى إنهاك بدأ معه منذ أكثر من مئة عام. ضنى أنهك لبنان، إلا أنه أنبت فيه رجالًا يوم قالوا فعلوا. رجال لم يبطنوا غير ما يظهروا، رجال أخلصوا العمل حتى لا تكون هناك أرض مغتصبة يُلخصها لفظ "قضية"، وعندما ما استطاعوا إلى حرية الأرض سبيلًا، نذروا أنفسهم لهذه القضية، ومات من مات منهم واسمها يلثم شفاههم "فلسطين"!

رجالٌ أنبتوا من صخر هذه الأرض، فالتحمت دماؤهم بسبلها ونسيمها ورياحها وترابها ونارها!

من الأمير شكيب أرسلان إلى كمال بيك جنبلاط، إلى بيصور، إلى رأس المتن، إلى عماطور، إلى عبيه، إلى جبل العرب، إلى جديدة الشوف، إلى جباع الشوف، إلى غريفة، إلى بعقلين، إلى قرنايل، إلى المطلة في فلسطين، وقرى شمال فلسطين...

من لبنان إلى فلسطين إلى جبل العرب، لم يتوانَ هؤلاء الرجال عن بذل الغالي والنفيس في سبيل الحرية، والأرض، والكرامة!

ولأن ما بين الماضي والحاضر أكثر من مجرد "واو العطف"، يعود الماضي يومَ عمل الأمير شكيب أرسلان من أجل إعلان الدستور العثماني في جبل لبنان، انطلاقًا من معرفته اليقين بطبيعة النسيج اللبناني، وحرصًا منه عليه؛ ووقف في مواجهة حركة اللامركزية، ودعا إلى الالتفاف حول السلطة المركزية أو الخليفة المتمثل يومذاك بالسلطان العثماني. يومها اتُّهم الأمير شكيب بأنه يقف إلى جانب السلطنة، وأنه ضد الحركة التحررية التي تدعو إلى إنهاء الاحتلال العثماني، وإعلان استقلال العرب. حتى إنه حُمّل مسؤولية بعض ما قام به الجزار تجاه من صار منهم شهيد 6 أيار، على الرغم من أن الأمير بذاته لم يكن بعيدًا عن أن يكون شخصيًا ضحية من ضحايا الباشا جمال!

خوّن الأمير شكيب أرسلان آنذاك، واتُّهم بأبشع التهم، ولكن، ولأن الدول لا تناصر الشعوب فعل خير من دون مقابل... تابع التنبيه من الخطر الأكبر القادم! الخطر الذي "كان"! فهو قد نبّه من أن استعداد الدول الغربية لمساعدة العرب إنما هو لغايات استعمارية، وعليه يجب الاعتكاف إلى الوحدة الداخلية، لأنها هي التي ستؤمن منعة العرب، لا وقوفهم في وجه السلطنة؛ لا سيما أن من تعهد ووعد – وهم الإنجليز آنذاك – لا يعترف بكلمة إلا كلمته، ولا توقيع إلا توقيعه، ومن عادته نقض عهوده ووعوده كما يشهد التاريخ.

وهُزمت السلطنة، وجلت عن الإيالات العربية... ولكن... صار ما نبّه منه الأمير شكيب: استبدل اللبنانيون آنذاك احتلالًا بانتداب...

تغيّر المصطلح، والفعل واحد! احتلال أو انتداب!

مع ذلك، لم يلوِ علَمَ جهاده الأمير شكيب أرسلان، فالحياة بحد ذاتها رحلة جهاد بنظره، بل تابع يناضل بقلمه، وبديعه وبيانه، وصوته، وسلاحه، ليصدح بالقضايا العربية رافعًا لواءها في المحافل الدولية، وليساهم في تأمين الخرطوش الحربي للمجاهدين في فلسطين... ليكون النضال من أجل فلسطين، ولتكن هي الوصية!

«قوتنا في وحدتنا؛ لم يتجرأ علينا أحد إلا لأننا تجرأنا على أنفسنا؛ لم تمت، ألم ترَ من مات؟؛ كيف نحفظ جنان الشام إذا لم نحفظ صحارى طرابلس؟...» هكذا قال الأمير شكيب [بتصرّف]... رفع الصوت وترك للعقول بدل الأثر آثارًا، لكن البعض صمٌّ بُكْم موات، لا ينفع فيهم صوت ولا حتى صدًى...

ولأنَّ ما بين الأمس واليوم أكثر من مجرد «واو»، ولأنَّ الأمير أراد دائمًا أن نتعظ بالتاريخ ونستمد منه الدروس، نقابل اليوم بالأمس، فإذا بالحال هو الحال... وإذا بما نادى به الأمير آنذاك ساري المفعول اليوم... فقوتنا في وحدتنا، ويجب أن نتعاون ونتساند حتى لا يتجرأ أحد علينا، وأن نتعظ ممن سبقنا، وأن نحفظ الجنوب والجولان ليظل لبنان سالمًا!

يوم دعا الأمير إلى الالتفاف حول الخليفة، وناهض حركة اللامركزية، لم يفعل ذلك انطلاقًا من ولاء مطلق للسلطنة، فهو كان يدرك أخطاء الممارسات السياسية التركية في الإيالات، وإلا لما كان عمل جاهدًا لإعلان الدستور العثماني كما سبقت الإشارة. وهو بذاته وصف العثمانيين بأنهم أهون الشرّين. بل فعل ذلك انطلاقًا من رؤيته لما ستؤول إليه الأمور بعد مئة عام ربما... وها نحن، بعد أكثر من سبعين عامًا على وفاته، لا نزال غير أحرار، نقرأ ما كتبه ونقول: قال فصدق، وحذّر فأصاب!

واليوم، ولأن ما بين الأمس واليوم أكثر من مجرد واو، يقف الأمير شكيب أرسلان في تماهٍ مع المعلم كمال بيك جنبلاط في كينونة واحدة، تتابع السير على الأثر وتصنع للأجيال الجديدة آثار النضال من أجل القضية الفلسطينية ونصرة الإنسان في فلسطين ولبنان. كينونة ترفع الصوت مؤكدة على البُعد العروبي والوحدة، وعدم الانجرار إلى الفتنة، وعلى ضرورة التعاضد، والتكاتف، وسدّ الأبواب في مواجهة ريح القتل والدمار والإجرام...

ومن الجد والأب إلى الحفيد والابن، يقف اليوم وليد بيك جنبلاط منتصرًا للحرية والإنسان والعروبة، منتصرًا للحق، ولشرعية الدفاع عن النفس في مواجهة العدو الذي لا يرحم ولن يرحم. العدو الذي يصنع الحجة ليقتل، ليسفك الدماء، ليحرق الأرض، ليهدم العمران.

وفي هذا الانتصار تأكيد على الوحدة الداخلية، لأنَّ قوة الجماعة في وحدتها لا في تشرذمها حتى عندما تتمايز المواقف والاِصطفافات، لأن الاصطفاف الوحيد الذي يجب أن يكون فوق أي اعتبار آخر: الوطن لبنان!

وجهان لم يلتقيا، الجد والحفيد، الأمير شكيب أرسلان ووليد بيك جنبلاط. إلا أن الحفيد قد حمل من جدّه الكثير، كما من أبيه، وإن رسم خطه الذي سيسطره التاريخ له بشخصه «الاستثنائي»... ومن شابه أباه وجدّه فما ظلم... فما بين الأمس واليوم أكثر بكثير من مجرد «واو»!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.