مقدمة لابد منها
قد يبدو العنوان بالنسبة إلى البعض مثيراً، ويمکن لهم أن يتصوروا أنه عنوان عاطفي وانفعالي، جرياً على العادة في العقود الأخيرة من الألفية المنصرمة وبدايات الألفية الجديدة، خصوصاً أنَّ اللعب على الأوتار العاطفية للشعوب، وشحنها بالحماسة المفتعلة کما کان سائداً في ثلاثينيات القرن الماضي في البلدان الأوروبية، نهج وإن تخلت عنه بعض البلدان ظاهراً، إلا أنها ما زالت تسعى لتسويقه بحلة قشيبة لکنها ليست کذلك في داخلها، تنطلي حتى على الشرائح الواعية.
هذا العنوان ليس دعوة أو فرضية مطروحة للبحث والنقاش، ولا تطرح القيادة السعودية الحالية نفسها بهذه الصفة، وإنما يعبر عن حقيقة قائمة وعن أمر واقع، وسوف نسعى لإثباته والدلالة عليه، وفي نفس الوقت تناول نماذج أخرى تطرح نفسها للزعامة وتسعى لاستقطاب قاعدة عريضة من المؤيدين في العمقين العربي والإسلامي، وذلك بالبحث والتحليل، من أجل إثبات ما نحن بصدد طرحه، ونعتبره، في الحقيقة أمراً واقعاً.
وثمة ملاحظة مهمة نجد أنَّ من الضروري جداً لفت الأنظار إليها، وأخذها بنظر الاعتبار والأهمية، وهي أننا، إذ نقوم بإثارة هکذا موضوع، فإن الهدف الأساسي منه طرح الحقائق على ما هي عليه، والعمل من أجل وضع النقاط على حروف أحد أهم المواضيع وأکثرها خطورة وحساسية، ذلك أنه، وفي ضوء ما يشهده العالم من جنوح نحو الزعامة والاستقطاب والتمحور، فإنَّ زعامة العالمين العربي والاسلامي صارت واحدة من المواضيع التي تطرح نفسها بقوة، ويجب تناولها بما يمکن أن يکون البداية المطلوبة لها.
الزعامة الايرانية والترکية للعالمين العربي الاسلامي
الحديث عن زعامة الأمة الاسلامية، والعرب بطبيعة الحال من ضمنها، يقود بالضرورة للحديث عن الزعامتين الإيرانية من خلال نظام ولاية الفقيه في إيران، والذي صار نظاماً مثيراً للجدل، لا سيما أنَّه يعزف على أکثر من وتر، فيصور نفسه مخلصاً للشيعة العرب بشکل خاص من "مظلومية" تاريخية لحقت بهم قروناً من جهة، ويصور نفسه جهة أخرى نصيراً للأمة الإسلامية وداعية للوحدة فيها.
وحديث الزعامة مطروح أيضاً من خلال النظام القائم في ترکيا، الذي يحاول، من خلال دغدغة المشاعر، العزف على التأريخ العثماني والسعي لا من أجل محاکاته، بل وحتى إحيائه.
سوف نسعى لطرح الموضوع الذي ذکرناه آنفاً في أربعة أقسام، وسنخصِّص القسمان الأول والثاني للتجربة الإيرانية في مجال الزعامة، والثالثة للترکية، والرابعة والأخيرة للسعودية.
سقوط الشاه ومجئ الخميني والسر الذي لم يذهب إلى القبر
لا نريد الخوض في الحديث عمن دعم الإتيان بالخميني وإسناده حتى اعتلى أرفع منصب في التاريخ الإيراني الحديث، فذلك ليس من شأننا، مع أننا نعتقد أن ثمة أياد غربية كانت تقف وراء التغيير غير العادي الذي حدث في إيران نهاية السبعينيات من القرن المنصرم، وأفضى إلى إقامة نظام ديني ملفت للنظر في إيران.
إنَّ تأسيس النظام الديني في إيران، والمستند إلى نظرية ولاية الفقيه، قد جاء في أواخر العقد السابع من القرن العشرين، والعقد السابع کان في الحقيقة بمثابة حالة مخاض لما اعترى العقدين السادس والخامس من القرن ذاته، حيث شهدنا مداً دينياً ـ سياسياً منظماً يسعى للإمساك بزمام الأمور وإقامة نظام سياسي يستمد من الدين تعاليمه.
سيدتان ترتديان اللباس الإسلامي وتسيران في شارع في طهران عاش فيه الإمام الخميني في 30 تموز (يوليو) 1989
قيام نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية کان مقترناً مع تضعضع الاتحاد السوفيتي في أفغانستان وهزيمته على يد الإسلاميين، الذي قامت الاستخبارات الأميرکية بتمويلهم وتنظيمهم وتوجيههم ضد السوفييت، ونجحت في ذلك، ومن دون شك فإنَّ النجاح المذهل للأميرکيين بهذا الصدد هو الذي دفعهم أکثر فأکثر للتضحية بحليفهم محمد رضا شاه في إيران، الذي أرهقهم بمساعيه من أجل مضاعفة دخل بلاده من البترول لتنفيذ أحلامه ببناء إيران متقدمة، والمجئ بالخميني.
الخميني والحلم الکبير بزعامة العالمين العربي والاسلامي
منذ الأيام الاولى لعودة الخميني غير العادية من باريس إلى طهران، وما رافق ذلك من ترکيز إعلامي ملفت للنظر، لا سيَّما الغربي منه، والذي رکز على العامل الديني أکثر من غيره، کان واضحاً أنَّ الخميني، الذي نصبوه "إماماً"، کانت لديه أحلام تتجاوز حدود إيران بکثير، خصوصاً عندما زينت له الأوساط المحيطة به أنَّ الأنظمة السياسية في العالم العربي أشبه ما تکون بتفاحات قابلات للسقوط في سلة نظام ولاية الفقيه في حال هبوب رياح مناسبة بوجهها.
إقرأ أيضاً: الرأس وليس أذرع الأخطبوط
العراق کان الهدف الأول، لکنه لم يکن الهدف الوحيد، لا سيَّما مع تأسيس الحرس الثوري ووجود قسم فيه يسمى بـ"حرکات التحرر"، وکان يرأسه في البداية مهدي هاشمي. وتوضيحاً لجانب مهم من أحلام الخميني ونظامه في فترة مهمة وحساسة بعد مجئ هذا النظام، نقتبس هنا بعضاً مما قد جاء في بحث مطول لنا بخصوص النظام القائم في إيران تحت عنوان "ثورة تصادر وأخرى تولد من جديد"، تشرح الأهداف المبيتة للخميني ونظامه منذ الأيام الأولى لتأسيس النظام، إذ "ومع إستتباب رکائز هذا النظام وتمکنه من السيطرة على زمام الأمور بيديه، بدأت الاتجاهات الدينية المتطرفة بالظهور وممارسة فعالياتها في العديد من الدول، ومن ضمنها العراق، لبنان، مصر، فلسطين، المغرب، أفغانستان، وقد ورد ذکر هذه الدول ودول أخرى في وثائق ومستندات سرية للنظام، ولئن سعى النظام الإيراني طوال العقود المنصرمة إلى نفي تدخله في الشؤون الداخلية لدول المنطقة والعالم، وأکد مراراً وتکراراً أنَّه يتبع سياسة مبنية على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، لکن وخلال الأعوام الماضية، وتبعاً لمجريات وأحداث ووثائق سرية للنظام تسربت من هنا أو هناك، تکشفت الکثير من الحقائق الناصعة التي تثبت ومن دون جدل حقيقة التدخل السافر لهذا النظام في الشؤون الداخلية للعديد من دول المنطقة، وبطرق ووسائل شتى، والأمر يتخذ بعداً وسياقاً استثنائياً عندما نجد أن اولئك الذين يتربعون على هرم السلطة في إيران، کانوا أعلم المسؤولين وأکثرهم دراية بما کان يتم تخطيطه وتنفيذه ضد الدول الأخرى، فالرسالة التي بعث بها هاشمي، أيام کان مسؤولاً لحرکات التحرر في الحرس الثوري الايراني، إلى آية الله الراحل المنتظري أيام کان نائباً للإمام، تميط اللثام عن حقيقة دامغة تتجلى بأن العديد من التقارير الأمنية الخاصة بالتدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة کانت تصل إلى الخامنئي بذاته، المرشد الحالي للنظام، ومنه تصل إليه، خصوصاً فيما يتعلق بالتقرير الذي أشار فيه إلى علاقة الحرس الثوري بتنظيم الجهاد الإسلامي في مصر، وعلمهم وإطلاعهم على مسألة اغتيال الرئيس المصري الراحل أنور السادات قبل وبعد تنفيذ العملية. ويقول هاشمي الذي صفي فيما بعد في صراع التيارات المتناحرة داخل النظام الإيراني، يقول في رسالته المهمة والخطيرة تلك: "بعد الموفقية في العملية (أي عملية إغتيال السادات) التي جاءت متطابقة مع ما تفضل به سماحة الإمام، قمنا برفع التقرير المفصل للعملية والذي کان قد ورد أولا إلى حضرة حجة الإسلام والمسلمين سيد علي الخامنئي، حيث قام حضرته بإرساله إلينا، وأنا قمت بتقديمه إلى حضرة الإمام وحضرتکم" (7).
اغتيل الرئيس السادات خلال عرض عسكري في القاهرة في السادس من تشرين الأول (أكتوبر) 1981
تقرير خطير يتضمن معلومات في غاية الحساسية عن عملية اغتيال رئيس دولة أخرى، وفيه تفاصيل عن أوليات إقامة علاقات النظام الإيراني الخاصة بتنظيم إرهابي مصري هو الجهاد الاسلامي، يصل أول الأمر إلى يد الخامنئي، وعن طريقه يبعث إلى مسؤول رفيع المستوى في الحرس الثوري هو في الواقع مسؤول الحرکات الإرهابية والعميلة للنظام في العالم، والتي تقوم بزعزعة استقرار وأمن دول المنطقة، لهو أمر جدير بأن يوضع تحت المجهر وتتم دراسته وبحثه بعمق، ذلك أن نظاماً يکون رجلاً في مستوى الخامنئي فيه على علم ودراية بتفاصيل هکذا أمور، فکيف الحال مع المسؤولين الآخرين؟ بل وکيف الحال مع النظام نفسه؟ لکن، لندع ذلك جانباً، ولنعد للتقرير نفسه، أي تقرير مهدي هاشمي المرفوع لآية الله المنتظري، حيث يقول في الفقرة الثالثة المتعلقة بالعراق: "في هذا البلد، وبوسيلة المعلومات التي حصلنا عليها بخصوص موفقية مجاميع عراقية، بعد انتصار الثورة في إيران، بالتعاون والتنسيق مع الأخ الشهيد محمد منتظري، توصلنا إلى الاتفاق بتشکيل قوات من طريق آخر، وبناءً على ذلك فقد تم إنجاز ما يلي:
أ ـ تشکيل منظمة علمائية باسم جماعة العلماء والتي کانت آنذاك تتکون من الوجوه المدرجة أدناه: حجة الإسلام والمسلمين السيد محمد باقر الحکيم، حجة الإسلام والمسلمين السيد محمود الهاشمي (رئيس السلطة القضائية في إيران)، حجة الإسلام والمسلمين سيد محمد تقي المدرسي، حجة الإسلام والمسلمين الشيخ مهدي آصفي وبضعة آخرين، وهذا الأمر انتهى بتشکيل المجلس الأعلى (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق).
ب ـ تکوين جيش إسلامي يتشکل من القوات العائدة لحزب الدعوة ومنظمة العمل وجماعة السيد الحکيم ونفر من الکورد العراقيين المسلمين" (8). وأيضاً، يضيف مهدي هاشمي في هذه الفقرة المتعلقة بالعراق: "الآن، لدينا أيضاً علاقة من قريب بطلاب عراقيين ملتزمين ومتصدين ومع جماعات مجاهدة حيث يتم إرسال أعداد منهم إلى جبهات الحرب وأعداد أخرى إلى داخل العراق" (9).
ما قد أوضحناه آنفاً، کان يتعلق ببدايات تأسيس النظام في إيران، أي حتى قبل حرب الخليج، ولکن عندما ننظر إلى ما قد حدث بعد ذلك في لبنان والعراق واليمن وسوريا، فإنَّ الصورة تتوضح أکثر، ويتبين جلياً أن مخططاً کان قيد التنفيذ، وقد تم تنفيذه فعلا! ولبحثنا صلة.