: آخر تحديث
هاشتاك الناس

"عكاب" يُهندس سيرته الذاتية

70
70
57
مواضيع ذات صلة

قراءة الكتب فلسفة، ولكنَّ الجذبَ لها هو أم الفلسفات. ومعادلة قانون الجذب هو التوازن بين الإقناع والمتعة، فهناك كتب مضامينها رصينة، بفكرها الغزير وبأحداثها الواقعية، لكنها تفتقر للمتعة؛ حيث يطغي فيها عنصر الإقناع على عنصر الإمتاع؛ فينام القارئ على فراش المَلَل.

وبمنطق الواقع والتجربة، فإن الكتابة هي الأسلوب؛ لذلك قيل: إن "الأسلوب هو الإنسان"، وترجمها العرب؛ فقالوا: "الأسلوب هو الرجل". والكاتب لا يبتدع أسلوب حياته؛ بل يعيش بالأسلوب الذي يُبدع به؛ هو استحضار لحواسَّه الخمس؛ ليكون قادراً على استشعار كل التفاصيل والأحداث المحيطة بمادته، بشرط أن تتكثَّف فيها عناصر المتابعة الدقيقة، وتتضافر مع الخلفية الثقافية، والقدرة الإبداعية للكاتب الصحفي.

وأفضل شيء في الكتابة، برأي العقاد: أن يكون للكاتب "أسلوب من الفطرة المستقيمة؛ لأنه هو الأسلوب العصري الذي يصلح لجميع العصور". حيث ترى روح الإنسان ودمه في خصائص كتاباته. والأصعب في العمل الصحفي، وخاصة في كتابة المقال والعمود الصحفي، وكتابة السيرة والذكريات؛ هو أن تنزل من أبراجك الفكرية إلى أرض بساطة الأسلوب والمعاني، دون أن تُقدِّم تنازلاتٍ تمحو الفكر والأسلوب محوًا. وقيل عن أنيس: إنه أنزل الفلسفة من عليائها، وشرحها بمتعة في زاوية صحفية ضيقة.

والكتابة لها بهجة وقيمة، وهي أيضًا براعة في الأسلوب، ومخزون لغوي زاخر، وغزارة في المفردات الحية، وكثافة في الصور البيانية، وتغايُرٌ في التراكيب، وتنويعٌ في الأداء، وسهولة ويُسر في الألفاظ، ورشاقة في أسلوب البلاغة والتشبيه. لكن الكثير مما يُكتَب اليوم، ليس له لونٌ أو طعم أو رائحة؛ وليس له (أرضٌ أو وطنٌ أو عنوان)؛ كما يقول الشاعر نزار قباني؛ إنما هو (اصطفاف) للأفكار الإنشائية، و(شخابيط) في الاستعارات والسجع، الذي لا معنى له سوى بَلبلة القارئ، والتلاعُب بعواطفه، وغلق عقله بإسمنت البلادة!

 وهنا، أود التوضيح والتوصيف لظاهرة أسلوب الكتابة، ولغتها في بعض أعمال الكاتب والإعلامي والمهندس: عكاب سالم الطاهر، وهو يستعرض سيرته أو ذكرياته في الحياة والصحافة، بعد أن تقاعد عن العمل "إلا من الصحافة"، كما يقول.
 
يقول عنه د. ناجي صبري الحديثي في تقديم أحد كتبه: إنه مثقفٌ طيبٌ وغير معقَّد (أجراس الذاكرة/ص12)، وهو ما انعكس على أسلوبه السردي؛ فتأخذ من شخصيته غير المعقدة "السهل الممتنع"؛ لغة صحفية رشيقة، وتنوع بفنون الكتابة تتأطر بمنطق الصياغة الوصفية المُحكَمة. إنه بحَّارٌ مُغامر، يعشقُ بحرَ الحياة بهدوئها وسكينتها، وغضبها وغموضها، وماضيها وحاضرها.     

أسلوب "عكاب" المهندس، استثمر اختصاصه في هندسة أسلوب كتابة سيرته وذكرياته، بالاعتماد على قوانين الرياضيات والفيزياء في مسألة الجاذبية والمثلثات المتطابقة المتكافئة؛ حيث الأسلوبُ المعتمد على قانون التعاقُب بشكلٍ سريع، أي الممازجة بين أنماط الكتابة المختلفة؛ لكسر رتابة السرد، أي تعاقُب الصور والأحداث، والأفكار، والوصف والسرد والأسلوب؛ بحيث تجعله شبيهًا بتقنيات المونتاج في السينما. 

وهذا يعني اعتماده على أساليبَ متعددة، وليس أسلوبًا واحدًا؛ فيلجأ إلى التنويع بين السرد والحوار، والحقائق، والبحث والخيال، وتوليد الأفكار المبتَكَرة بتقنية العَصف الفكري؛ حيث تقشيرُ الحياة بطريقة واقعية مُبتكرة، وكساؤه العظامَ لحمًا، وإعادة الماضي برؤية الحاضر في متوالياتٍ من الرؤى والتجارب؛ لإبراز الصور والمعاني المخفية عن العين البيولوجية!  

في معظم كتبه، وأخص بالذكر: (على ضفاف الكتابة والحياة – الاعتراف يأتي متأخرًا) و(شواطئ الذاكرة) و(أجراس الذاكرة)، يُدوِّن لسيرته الحياتية بعد اكتشافه أن (قطار العمر يمضي نحو المآل الحتمي والنهائي، ولم تتبقَّ سوى محطات قليلة ليصل إلى المحطة الأخيرة – ص11)، وهي سيرة وطن ومواطن تمتلئ بأعاصير الزمن وتناقضاته، وتغوص في أعماق براكين الأحداث السياسية والاجتماعية قبل انفجارها. وهي سِيَر تزدحم بالحوارات والخواطر والذكريات والتأملات بلغة الصحافة.   

لا يَخفى أن بعض كتبه تشمل فقراتٍ من الخواطر الحياتية المجردة من العمق الفكري؛ لكنْ لها متعة التشويق والمتابعة والفائدة، وربما بعضها كُتبت في فترات زمنية بعيدة؛ لكنها مازالت تحمل وهَجَ الحياة والتجربة، وهي تجميع مؤرخٍ يهتم بسرد الأحداث الماضية سردًا منهجيًّا مُتتاليًا؛ للوصول إلى الحقيقة. وما قام به من حكايات عن السِيَر الذاتية للشخصيات السياسية والأدبية والإعلامية؛ هو تعبيرٌ عن المعنى والتجربة للفعل الإنساني، ورمزية المكان، وزمن الحدث؛ بهدف إيقاظ العقل النائم، وتفعيل الدهشة الغائبة لدى الأجيال الجديدة المتعاقبة.

وهناك اتجاه إيجابي في كتبه، ألا وهو استثمار مهاراته في "العلاقات العامة"، وكذلك قدرته على التقاط مشاعر مَن يكتب عنهم، ومعرفة مزاجهم، وكذلك استثمار (هوسه بالسفر) المستمر؛ لكشف أسرار المدن والبشر، في صورٍ صحفية مكتوبة بالقلم العريض، وبشكل فني يُجسِّد أفكارَه تجسيدًا شائقًا أخَّاذًا، وبأسلوبٍ رشيقٍ في تعبيراته ورموزه، ومفرداته المحمَّلة بثقافةٍ عصرية.

ما جذبني في كتبه، أسلوبُه الخاص، الممتلئ بالتراكيب الفنية الغنية بالمعاني والرموز، ولغته الصحفية الرشيقة، المملوءة بشغف حب الحياة، وثُنائية العبارة الكلاسيكية والحديثة، وجُمَلُه القصيرة الحديثة! حيث موقفُ الكاتب من الحياة باستطراد قليل، وعراقيته المتجذِّرة بالأرض التي لا تقبل القسمة على اثنيْن. 

باختصار، الكاتب يكتب بأسلوب التفرد والمتعة والدهشة والتساؤل، فهو يأخذك إلى أسرار الحياة بدهشتها وأحداثها وعنفوانها، وفك شفرتها بألوان فنون الكتابة الصحفية. يأخذك معه بشغف وحب داخل كتبه، ولا يجعلك تخرج منها، إلا وقد عادت روحك للوجود من جديد.

 
[email protected]
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.