"اضطررت لبيع ملابسي وملابس أطفالي حتى أتمكن من شراء بعض حبات من الخضار وأرغفة خبز بسبب الغلاء الكبير في الأسعار والذي لم يحدث بهذا الشكل من قبل في بلدنا" تقول السيدة أم محمد من مخيم دير البلح وسط قطاع غزة وقد اغرورقت عيناها بالدموع.
وتشير إلى أن ما دعاها لفعل ذلك هو طلب أحد أولادها منها أن تشتري له حبة طماطم والتي لم تتناولها تلك الأسرة منذ شهور وبات ثمن الحبة الواحدة يعادل ثلاثة دولارات في منطقتي محافظة وسط قطاع غزة وجنوبه، أما في محافظة الشمال فهي لا تتوفر مطلقا لا سيما في ظل استمرار العملية البرية الإسرائيلية المتواصلة هناك منذ أكثر من شهر حيث تفرض القوات الإسرائيلية عليها حصاراً مطبقاً مانعة وصول أي نوع من المستلزمات الغذائية والدواء والمياه.
هذا وحدثت زيادة مذهلة بنسبة 283% في مؤشر أسعار المستهلك في قطاع غزة منذ بدء الصراع الحالي وفقاً لمكتب الإحصاء الفلسطيني وهو الأمر الذي يحصل لأول مرة في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وكان برنامج الأغذية العالمي قد حذر مؤخراً من تضاؤل إمدادات دقيق القمح، ووصلت الأزمة الاقتصادية، على حد تعبير الوكالة، إلى "نقطة الانهيار".
ما هي أسباب الارتفاع الجنوني في الأسعار؟
يعزو كثير من السكان المحليين الذين تحدثت معهم بي بي سي أسباب ارتفاع الأسعار الذي يقولون إنه غير مبرر إلى سببين وهما إغلاق المعابر من قبل إسرائيل وهو الأمر الذي لا حيلة لهم به، والآخر هو احتكار مجموعة من التجار للبضائع بهدف رفع أسعارها عشرات الأضعاف.
وعلاوة على ما سبق فقد برزت مؤخرا مجموعات من اللصوص ومن يصفهم الأهالي هناك بقطّاع الطرق وباتوا يترصدون لقوافل المساعدات التي تدخل إلى القطاع عبر معبر كرم أبو سالم التجاري مع الجانب الإسرائيلي على الرغم من قلتها ويقومون بسرقتها ومن ثم يعاودون عرضها في السوق ويبيعونها أيضا بأسعار فلكية كما وصف لنا عدد من السكان.
ويقولون أيضا إن البلاد باتت تعيش في حالة من الفوضى في ظل غياب القانون أو أية جهات رقابية يمكن أن تضبط الأسواق أو أن تضع حدا لحوادث السرقة ومجموعات السطو على القوافل، وهو أيضا ما فاقم من أوضاع السكان الذين باتوا غير قادرين على شراء البضائع سواء التي يبيعها اللصوص أو التجار المحتكرين، كما يقولون.
بدء حراك شعبي ضد "جشع التجار"
شهدت عدة أسواق محلية في مناطق مخيم النصيرات ومدينة دير البلح في وسط القطاع وأيضا في مدينة خان يونس جنوبا إغلاقًا في أسواقها على مدار الأيام الماضية من قبل مجموعات سكانية فلسطينية من عدة عائلات وبعض الفعاليات المجتمعية وذلك احتجاجًا على ما يصفوه باحتكار التجار للبضائع لا سيما المواد الغذائية وهو ما أدى لارتفاع أسعارها بشكل جنوني وغير مبرر كما يقولون.
وجاء في بيان لبعض العائلات من مدينة دير البلح أنّ هذا الإغلاق يشمل كافة المكونات التجارية، ووقفًا كاملاً لحركة البيع والشراء بهدف كسر شوكة التجار المتلاعبين بالأسعار واستغلالهم للأوضاع، مؤكدة أنهم سيستمرون في هذا الإجراء حتى تعود الأسعار إلى مستواها الطبيعي.
وتضمن الحراك الشعبي مظاهرات ووقفات نظمها الشبان، رددوا خلالها هتافات تندد بالاحتكار الذي يمارسه التجار وارتفاع الأسعار بشكل جنوني، رافعين شعارات مناهضة لرفع الأسعار منها: "يسقط جشع التجار".
ويأتي الحراك الشعبي ضد غلاء الأسعار جنوبي قطاع غزة في ظل تفاقم أزمة المجاعة؛ لاختفاء جميع أصناف السلع والمنتجات الغذائية من الأسواق والمحال التجارية وبسطات الباعة المتجولين، فلا يوجد سوى بعض المعلبات والتي ارتفعت أسعارها بشكل جنوني إن وجدت.
ويعزو المتظاهرون الارتفاع الحاد في الأسعار إلى الغياب شبه الكامل للرقابة التنظيمية في القطاع، ويقولون إن التجار، في ظل عدم وجود سلطات لكبح جماحهم، استغلوا الأزمة لرفع الأسعار دون رادع.
وقد حاولنا التواصل مع أكثر من تاجر في غزة للتعليق ولكن لم نحصل على أي تعليق حتى الآن.
محتجون: نحن وأولادنا بتنا جوعى بسبب التجار والاحتلال
تجمع العشرات من المواطنين الغاضبين في منطقة السوق وسط مدينة خان يونس ومن حولهم مئات المنازل المدمرة بفعل الغارات الإسرائيلية العنيفة التي تعرضت لها المنطقة، وكانت أعداد كبيرة تنتشر في هذا المكان من عربات الباعة في السوق والتي تعرف محليا بــ " البسطات" لكنها باتت فارغة تماما وغاب البائعون عنها بفعل هذا الاحتجاج الشعبي، وكان المحتجون يصرخون بأصوات عالية ويرددون شعارات تندد بالتجار وبمن وصفوهم بالمستغلين والمحتكرين.
التقت بي بي سي مع عدد من المحتجين في سوق خان يونس ومن بينهم إبراهيم أبو زردة الذي قال "نحن غير قادرين على العيش وبتنا نحن وأولادنا جوعى بسبب جشع التجار وبسبب الاحتلال الذي يغلق المعابر، نحن مع هذا الحراك ونتمنى لو كان قد حصل منذ وقت، المواطن في غزة بات معدوما لا يمتلك المال ولا الطعام ولا الشراب، وفوق كل ذلك تفتك بنا الأسعار الجنونية، أنا شاهدت امرأة تبيع ملابسها في السوق حتى تتمكن من شراء الخضار لأولادها".
ويضيف أبو ممدوح الشندغلي بالقول إنهم ومنذ عام لا يوجد لديهم أي مصدر دخل أو رزق يمكن أن يعتاشوا منه وباتوا يعتمدون في الغالب على ما يعرف محليا بتكيات الطعام، وهو الطعام الذي يقدمه بعض المتبرعين من ميسوري الحال، ويتابع "كنا نقوم بشراء عبوة زيت القلي قبل الحرب بــ 6 شيكل (حوالي دولارين) واليوم بتنا نشتريها ب 60 شيكل (حوالي 16 دولارا)، الوضع صعب جدا علينا وعلى أولادنا ولا يمكن العيش في ظل هذه الظروف".
من ناحيته يضيف مواطن ثالث بأن ثمن كيلو السكر على سبيل المثال كان قبل الحرب بــ 8 شيكل (حوالي دولارين ونصف) وكان باستطاعتهم شراؤه لكنه اليوم يباع بــ 60 شيكل (حوالي 16 دولارا) وأصبحوا لا يتمكنون من شرائه، وباتت الأسواق اليوم مغلقة وزادت معاناتنا بسبب احتكار التجار، كما يقول، ويطالب من وصفهم بالمسؤولين عن الشعب بمتابعة التجار وملاحقة المستغلين والمحتكرين للبضائع.
كيف تدخل البضائع إلى غزة في ظل الحرب؟
تنفذ قوات الجيش الإسرائيلي عملية عسكرية برية في محافظة رفح جنوبي قطاع غزة منذ أكثر من سبعة أشهر قامت خلالها بالسيطرة الكاملة على أهم معابر القطاع وهما معبرا رفح البري على الحدود بين القطاع والجانب المصري وأيضا معبر كرم أبو سالم التجاري على الحدود بين القطاع وإسرائيل وقامت بإغلاقهما.
هذا علاوة على سيطرتها على محور صلاح الدين أو ما يعرف إسرائيليا بمحور فيلادلفي على طول الشريط الحدودي بين مصر وغزة، وعقب إغلاق المعابر منعت إسرائيل إدخال المساعدات والبضائع عبرها لعدة شهور وبعد ذلك بدأت تسمح بإدخال كميات محدودة من البضائع إلى القطاع سواء التي تأتي على شكل مساعدات أو التي يقوم تجار غزيون بشرائها بهدف التجارة من الخارج.
وتتم عملية التنسيق لتجار القطاع لإدخال بضائعهم من خلال ما يعرف بدائرة الاقتصاد في الجيش الإسرائيلي ومقرها حاليا في معبر بيت حانون "إيرز" شمال قطاع غزة.
ويمنح الجيش تصاريح محدودة لبعض التجار الذين يتهمهم السكان بالاحتكار، وحسب بعض المصادر في غزة فقد أوقفت إسرائيل ومنذ الثالث من أكتوبر الماضي العمل بهذه الآلية وبات السماح بدخول أي بضائع يقتصر فقط على منظمات الإغاثة الدولية والتي يتحكم الجيش الإسرائيلي أيضا في طبيعة وحجم البضائع التي يسمح لهم بإدخالها بل وحتى يحدد لهم المكان الذي قد تصل اليه، وعلى سبيل المثال تمنع تماما وصولها إلى شمالي غزة منذ أكثر من شهر.
اتهامات لمنظمات دولية ببيع تنسيقاتهم الإسرائيلية للتجار!
يقول محمد أبو جياب وهو محلل اقتصادي نازح حالياً من مدينة غزة إلى مخيم دير البلح وسط القطاع لبي بي سي بأن الجيش الإسرائيلي بعد أن أوقف آلية التنسيق الخاصة بالتجار بدء فقط بمنح منظمات دولية معروفة تنسيقات الدخول إلى قطاع غزة.
ويتهم أبو جياب تلك المنظمات بلعب دور فيما وصفه بالفساد والتلاعب والاحتكار من قبل التجار وذلك جراء قيامها ببيع أذونات الدخول التي يحصلون عليها من الجيش إلى بعض التجار الذين بدورهم يقومون بشراء البضائع من الخارج وإدخالها إلى القطاع عبر تلك التصاريح.
ويضيف أن بعض تلك المنظمات تقوم أحيانا بجلب مساعدات لسكان القطاع من مواد غذائية وخيام وملابس وما شابه ذلك وتبيعها للتجار الذين بدورهم يقومون بتخزينها لفترات طويلة حتى يصبح الناس في حاجة ماسة وملحة لها ثم يعرضونها في الأسواق بأسعار خيالية كما يقول أبو جياب.
ويؤكد أيضاً أن ممثلي تلك المنظمات يحصلون على مبالغ مالية عالية من التجار مقابل تلك التصاريح تصل في أحيان كثيرة كما يقول إلى أن تكون أعلى من سعر البضاعة نفسها التي يدخلها التاجر ما يجعله يقوم برفع أسعار تلك السلع أضعاف مضاعفة ويبقى المتضرر الأول والأخير هو المواطن.
- مراسل بي بي سي: خرجت من غزة، لكنني أشعر بالذنب لأن أقاربي هناك
- حرب غزة: هل تتجاوب إسرائيل مع دعوات المنظمات الأممية والإنسانية؟
يتوقع أن تمتد الحركة الاحتجاجية الشعبية الحالية في محافظتي وسط وجنوب القطاع إلى مدينة غزة أيضا والتي كما ذكرنا تستطيع بعض المنظمات الدولية مساعدة التجار بإيصال بضائعهم لها رغم أن إسرائيل تصنفها ضمن شمالي القطاع، وللعلم فأن العملية العسكرية التي تجري في الشمال هذه الأيام لا تشمل مدينة غزة وإنما تجري فقط في بلدات محافظة الشمال والتي تضم بلدة جباليا ومخيمها وبلدة بيت لاهيا ومدينة بيت حانون
حيث لقي هذا الإضراب استحساناً وتأييداً من كل المواطنين، الذين تضرروا طوال هذه المدة من فساد التجار والمحتكرين وغلاء أسعار البضائع وانعدام كثير منها، فقد يشعرون أن هذه الخطوة يمكن أن تأتي بنتيجة ويعود الاستقرار للسوق، الذي أصبح شكله الحالي أكبر دليل على المجاعة التي بدأت بالانتشار في الوسط والجنوب.