إيلاف من أصيلة: شكل تكريم الفنان المغربي عبد الكبير ربيع، اخيرا بأصيلة، ضمن فعاليات الدورة الصيفية لموسمها الثقافي الدولي ال44، فرصة لتوجيه "تحية لمنجز هذا الفنان الرائد، وتسليط الضوء مجددا على اجتهاده التصويري، ودعوة المشهد الفني إلى استقراء التجربة في خصوبتها وحصيلتها الفذة"، وفق ما جاء في الورقة التقديمية، التي أخذت عنوان "عبد الكريم ربيع: سفر في المشغل"، من توقيع شرف الدين ماجدولين، الناقد وأستاذ التعليم العالي بالمعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان، الذي شدد على أن هذا التكريم هو الأول من نوعه في موسم أصيلة، سيشكل منطلقا لاحتفاء سنوي برموز التشكيل المغربي، تضاف لمثيلاتها من لحظات الاحتفاء التي ألفها الموسم منذ أزيد من أربعة عقود، في حقول الشعر والرواية والنقد والفكر والصحافة.
محمد بن عيسى ويبدو الى جانبه الفنان التشكيلي عيد الكبير ربيع
سيرة فنية
جاء في ورقة ماجدولين، أن الفنان المكرم يعتبر "ركنا أساسيا في مغامرة التجريب الذي خاضه رواد الحداثة التشكيلية المغربية منذ النصف الثاني من القرن الماضي، إذ يحسب على الرعيل المؤسس للتجربة الرمزية المغربية، من جهة خوضها في إعادة وعي التراث البصري وتقليب احتمالات تقاطعه مع الكشوفات الفنية المعاصرة، لأجل صوغ مدونة تشكيلية لها أصالتها وبلاغتها وقواعدها النافذة".
وبناء على هذا الافتراض، تضيف الورقة، يتجلى عمل هذا الفنان "الوافد من حقل التدريس في ستينيات القرن الماضي، بما هو مؤلف سردية رمزية تقول حدوس الوراق القديم وتوق الفنان المعاصر وهواجسه، عن الولادة والموت، والوحدة والتعدد، والصخب والسكون، ليطل بمحمولها المجازي، وباختراقيتها في الأسلوب والرؤية، وتطويع القواعد وأشكال السند، على ملكوت اللوحة المصاغة من قماش وورق وخشب، وسوائل بماهيات متقلبة".
وأضافت الورقة أن ربيع "ترجم سجيته في التطلع إلى الفهم، وتقليب بلورة الحقائق، عبر أزيد من خمسة عقود من التجريب والتنويع، والمحو وإعادة التشكيل، ثم درء لعنة العادة والإتقان. فيما تلاحقت عشرات المعارض والإقامات الفنية، والكاتالوغات، والكتب الجماعية، والنصوص التي كتبها، بتطلع مبدئي إلى المروق البصري، والشك الفكري، والتخطي الأسلوبي للتحققات العابرة والزمن، والاحتفاظ فقط بنسق ناظم لمسعى المصور إلى التوائم مع رهانات كبرى، قصاراها تكوين أبجدية أخرى للحركة والسكون، واستيضاح أطياف الواحد المتعدد، ثم استبات المطلق من الهباء".
هكذا، أنجز ربيع عبر محطات سفره في المشغل "أوجها متباينة لظلال المعنى"، فيما "لم يكن تولعه بالسواد إلا لحاء لمسعى منطقة البرزخ الرمادي، بنسخه وإزالة أقنعته".
وكشأن فنانين طليعيين عديدين في خريطة الوطن العربي "كان التحول من مقامات تمثيلية شتى مظهرا من مظاهر الاستئناف الأسلوبي، بتطويع الأداة والمنظور وأشكال السند واحتمالات التكييف المادي للوحة، ما بين الصباغة والرسم والكولاج والحفر والليتوغرافيا، بمقدار ما كان تغلغلا في نقل الولع بالأسئلة الكبرى للفن والحياة:الحرية والسكينة والامتداد والمطلق ووحدانية الفرد".
ربيع .. الصدق والأصالة
قال ماجدولين، في كلمة بالمناسبة، إن التكريم "يتعلق باسم ومسار بعمق إنساني يختزله اسم عبد الكبير ربيع"، الذي "إذا أردنا أن نختصره في كلمة واحدة، هي مفردة "الصدق"، فهو صادق مع ذاته، ومع محيطه، ومع اختياراته التعبيرية". ولهذا "كان دوما عصيا على التقليد ولا يجاري في عمله واختياراته وأسلوبه".
من جهته، قال محمد بن عيسى، أمين عام مؤسسة منتدى أصيلة، إن الموسم بتكريمه لربيع يستحضر التجربة التشكيلية المغربية، من منطلق أنه فنان عاش التجربة منذ بداياتها، وعاشر من كانوا في قطاع التشكيل خلال هذه المدة.
وأضاف بن عيسى أن ربيع "فنان عصامي بكل معاني الكلمة، تسكنه الطبيعة والأصالة، في حياته وفي عمله فالرجل متواضع، ويكاد في تواضعه أن يكون إنسانا منعزلا".
ورأى بن عيسى أن تكريم ربيع سيبقى في الذاكرة لأنه "به بدأنا مرحلة جديدة. فالفن التشكيلي كان دائما هو الأرضية الصلبة التي زرعت فيها بذور تظاهرة أصيلة منذ 1978. لم نعن بالجوانب الأخرى للفنون التشكيلية إلا هذا العام، حيث بدأنا ندخل في جوانب أخرى من عالم الفنون، ليست فقط الصباغة والمشاغل والصباغة على الجداريات، ولكن أيضا ما تواجهه الفنون، من حيث الجوانب التسويقية والمعايير التي يمكننا أن نسمي بها الفنان فنانا. ومن حيث كذلك ما تقوم به أروقة المعارض، وغيرها".
وخلص بن عيسى إلى أنه لا يقول إن أصيلة هي عاصمة للفنون، ولكنهم يبذلون كمنظمين جهدا لتناول الأمور، ليس تناولا مهرجانيا، و"لذلك سمينا تظاهرة أصيلة موسما وليس مهرجانا"، يوضح بن عيسى.
ربيع "المعلم" والتكريم "النبيل"
بعد عرض فيلم من إخراج نجيب الزروالي، تناول مسار وتجربة ربيع، مع التركيز على العناصر التي ساهمت في تغذية الخيال الفني للمحتفى به، أعطيت الكلمة لعدد من المتدخلين، بينهم نقاد وفنانون وفاعلون في مجال الفنون التشكيلية، تربطهم بربيع وتجربته أواصر شتى.
وتحدث محمد نور الدين أفاية، المفكر ومدير المعهد الأكاديمي للفنون بأكاديمية المملكة المغربية، عن "نبل" اختيار تكريم ربيع الذي، قال عنه إنه يشكل "إحدى العلامات الكبرى في تاريخ الممارسة التشكيلية المغربية". ثم تحدث عن الصداقة التي جمعته به منذ 1989، مستعيرا كلاما للروائي البرازيلي باولو كويلو يقول فيه إن "الصداقة كلمة ثمينة جداً، لا تقال لكل إنسان".
ورأى أفاية أن ربيع "معلم بالمعنى الكلاسيكي والنبيل للمعلم". وأنه "كان هكذا وبقي كذلك، يقوم بهذه المهمة شبه المقدسة بتواضع مثير، ذلك الصنف من التواضع الذي يخفي شجاعة داخلية وكرامة ثابتة تعبر عن ذاتها بصمت أو اعتمادا على كلام محسوم بدرجة يشعر فيها المرء أن التواصل مع ربيع مسؤولية أخلاقية عليا". وأضاف أن هذه "المسؤولية الأخلاقية" هي التي ميزت ربيع في كل تجاربه التعليمية والبيداغوجية (التربوية) في باقي تعاملاته الفنية، لذلك "عبر وما زال يعبر عن ذاته بوصفه كائنا أخلاقيا لا يحركه في ذلك أي وهم لاستقطابك أو ترويضك او التأثير عليك".
وتحدث أفاية عن منجز ربيع، فقال إنه جرب كل أشكال الرسم والصباغة، تشخيصيا كان أو تجريبا، مع إشارته إلى أنه "أبدع في هذا الأنماط باحثا فيها عما يتلاءم مع تساؤلاته الخاص عن الوجود والحياة والموت والأثر والآخر".
وأشار أفاية إلى أن "البعض يلاحظ في لوحات ربيع على الرغم من السكينة الداخلية التي تبدو على صاحبها تختزل إيقاعا راقصا يضمنها موسيقى داخلية يحرص في كل مرة على تغيير موازينها ونبراتها وأصواتها، حتى وإن ارتمى منذ مدة في عوالم الأسود بتموجاته وتمايلات خطوطه حين حرص على أن يمنح لمساحات لوحاته حياة وحركات داخلية كثيرا ما تبدو مستعصية على فك شفراتها وأبعادها ودلالاتها".
ولاحظ أن الأمر يتعلق، على مستوى التجربة الإبداعية لربيع، بـ"نداء داخلي يتطلع إلى تحرير التوترات العميقة وغير المتوقعة التي تؤجج النزوع القوي بتشكيل عرض على سطح اللوحة، مهتديا بعناصر تصنع كثافة تلغي ما يسمه بالتمايزات والأساليب الوسيطة، لخلق أثر قوي اعتمادا على عنصرين بقدر ما يكونان متطرفين أو متنافرين فإنهما متكاملان، وهما المضيء الناصع والمعتم الغامق".
في سياق ذلك، أضاف أفاية أن ربيع "لا يحصر جدلية المضي والغامق في الإنجاز التقني فقط، أو أنه يختزلها في ما يمكن اعتباره أثرا، وإنما هي تركيب مفهومي ينشط الأهواء على الدوام وإليه يهفو كل مبدع رسام إلى التعالي".
وهكذا، لا يرى ربيع في توترات المضيء والمعتم سوى "مقولتين رئيسيتين للمجال وللفضاء، وطريقة لا تقل توترا في المعالجة، لتحويل ما هو خارجي وتشغيله بطريقة يكشف بها عن ذاته وعن وجوده وعرض خصائصه"؛ ليتمثل ما هو مهم في الرسم، ويسعى ربيع إلى طرحة بالأساس، في ما يسمه "ضوء الروح"، الذي "يهتدي به في ليله، حين تنهض الحياة الداخلية وتنتفض لترتمي في التأمل إلى درجة تجعله يشعر بنوع من السكر داخل حالة من الانفعال والروحانية، تصل إلى مدارج من التسامي الصوفي".
تكريم "مفخرة" .. ومؤسسة "عتيدة"
سارت باقي المداخلات على نفْس النفَس الذي حرك مداخلات ماجدولين وبن عيسى وأفاية، مقدمة شهادات عن فنان "مارس حياته وفنه وصداقاته مستنيرا بأخلاقيات حرص على الدوام على استحضارها".
وركز كل من محمد رشدي، الفنان التشكيلي والناقد الفني ومنظم المعارض، وعز الدين هاشمي الإدريسي، الأستاذ الجامعي والناقد الفني والفنان التشكيلي، ونبيل دا يحيا، الفنان والكاتب ومؤسس رواق، والمهندس عمر بنموسى، ويوسف وهبون، الفنان التشكيلي وأستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس بالرباط، على العلاقة الإنسانية والمهنية التي جمعتهم بربيع، مع الحرص على توجيه تحية رمزية لفنان ومثقف وتربوي يستحق واجب التقدير وموفور الاحترام.
من جهته، عبر ربيع، في كلمة ختامية، عن شكره لبن عيسى ولمؤسسة منتدى أصيلة، معتبرا التكريم "مفخرة"، لأنه يصدر عن مؤسسة قال عنها إنها "عتيدة دأبت على تعزيز الحوار الثقافي والحضاري من خلال موسم أصيلة والإشراف على جامعة المعتد بن عباد"، قبل أن يخلص إلى أن تكريمه هو احتفاء بالفن التشكيلي المغربي، الذي تضافرت جهود عديدة، منذ عقود، لرعايته وضمان إشعاعه في الساحة الفنية، قال إنه يأتي على رأسها، ما يتم على مستوى منتدى أصيلة.