: آخر تحديث

ميراث الاستبداد في "الليلة الأخيرة" للضنحاني

55
50
57
مواضيع ذات صلة

صدر خلال هذا الشهر، وفي معرض الشارقة للكتاب، كتاب مسرحي بعنوان "الليلة الأخيرة" للشاعر والكاتب محمد سعيد الضنحاني، وهي مونودراما مختصرة الفكرة، وعميقة المعنى، ومليئة بالرموز الزمانية والمكانية، حيث تم اختصارها بمشهدين آثنين، كل مشهد يعبر عن فكرة فلسفية في الحياة، وبرؤية نفسية تكشف أغوار النفس البشرية، وتعري الواقع الاجتماعي وتقاليده المريضة، وخاصة نظرته الدونية للمرأة.

في المسرحية هناك شخصية المرأة (مريم) الرئيسية التي تبنى عليها الأحداث، وتنفجر منها الأفكار والمشاعر والإحباطات، وهناك شخصية الأب والأم والطفل والدمية، وهناك "البيت" الذي يصبح رمز مكاني للبيئة الملوثة، وعنوانا للأزمات المجتمعية.

وببساطة شديدة، المسرحية تلخص لنا فكرة الاستبداد الاجتماعي، وسلطة الأب القهرية، والأبرز هو عرض مظلومية المرأة العربية في مواجهة استبداد المجتمع وتقاليده، وكذلك تعرية القيم التي تجعل المرأة تعيش حالة استلاب مجتمعي وقيمي، وظلم اجتماعي يقيد حقوقها وحريتها.

في المسرحية هناك فكرة رئيسية، وبلغة المسرح هي المقدمة المنطقية، مثلما هناك أفكار متفرعة من الفكرة الرئيسية، حيث برع المؤلف في جعل هذه الأفكار تصب في الفكرة الرئيسة بتناغم منطقي، وتتصاعد دراميا لتشكل حالة التوتر الكبير الذي تعيشه "مريم" من قهر واستبداد سلطة الأب.

ما يثير في مسرحية "الليلة الأخيرة" تلك الحبكة (العقدة) التي تترابط فيها الأحداث والأفكار مع بعضها البعض لتشكل قيمة العمل المسرحي وأسلوبه الكتابي. فشخصية "مريم" وصراعها النفسي، وحالة التوتر بين الشخصيات قد أدت إلى جعل القارئ يترقب تحول الأحداث، ويعيش بقوة لحظات التوتر النفسي لدى الشخصية الرئيسية، خاصة وإنها في حالة صراخ دائم ضد استبداد البيت والمجتمع "أما آن للشمس إن تشرق ...أما آن للنور إن ينبثق ... ليشق إنفاق الظلام ... ويتعدى طوابير الزحام ليتسلل إلى جوفي ...ويضئ روحي".

ما يثير في المسرحية هو ذلك البناء الصراعي النفسي المتقن الذي أتقن الضنحاني صناعته، وذلك الحوار المشحون بالتحدي مرة، وبالمرارة مرة أخرى. فلن تجد "مريم" رغم حزنها ومرارتها من واقعها الحزين في البيت سوى أمها كأمل للخروج من مأزقها النفسي والاجتماعي "أحتاجك ياأمي .. يانبضا في دمي .. يالحنا في همي .. يابوحا في حزني .. أحتاجك أمي ... اشعر بالخوف ... أشعر بالغربة ...أشعر بالعطش".   

هكذا يفجر المؤلف الصراع الذاتي، ويجعله موقفا اجتماعيا يرمز إلى مظلومية الشخصية، وضعفها وانهيارها "تظل الروح معلقة ...تبث روح الحياة بلا أمل“. لذلك فالصراع هنا ليس ذاتي فقط، إنما هو صراع أبدي مع المجتمع وتقاليده.                          
بناء الشخصيات عند المؤلف هو عنصر مهم في خلق الحدث وتطوره، لذلك كان حريصا على بناء شخصية "مريم" محور المسرحية بتأن وإتقان، وأن يرسم لها خريطة درامية مثيرة بالأفعال والسلوك، وربطها جدليا بالحياة الاجتماعية، لأن بناء شخصيتها هي تحصيل طبيعي لتنشئتها، وعلاقاتها الأسرية والمجتمعية. لذلك اعتمدت الشخصية الدرامية على الحوار الذاتي، حديث الشخص لنفسه، كما نرى ذلك في المسرحيات الكلاسيكية لموليير وراسين وكورني التي يكثر فيها هذه الحوارات الجانبية "المونولوجات".

لكن بناء الشخصيات يرتبط أيضا ببناء الحوارات ومعانيها، وارتباطها بالشخصيات وثقافتها الاجتماعية، وجمالية سردها وتعبيرها الفكري.

لقد تميز الحوار الداخلي للمسرحية بالبساطة الممتلئ بالدلالات الاجتماعية والنفسية، وبالمعاني الإنسانية المتفجرة التي تساعد القارئ على فهم واستنباط المعاني التي تخدم البناء الدرامي للمسرحية "كيف لك أن تعيش في أرضة قاحلة جرداء ... لا ماء فيها ولا حياة ... يهاجمك العطش من كل ناحية ... العطش ... الجفاف لاشئ سواه".

المثير في "الليلة الأخيرة" تلك النهاية المعبرة والمثيرة في دلالاتها ورمزيتها، وطريقة أسلوبها المثيرة بالصدمات الإنسانية، وذلك التشويق المبهر بالمعالجة الدرامية الأنيقة، والابتعاد عن النهايات المألوفة والمتوقعة التي تخفي روح الإدهاش بها، وتبرز فيها عنصر المصادفات؛ لأن المصادفات تقبل في الحياة، ولا تقبل في المسرح. وبعض المسرحيات يحسن المؤلفون صياغتها حتى إذا وصلوا إلى نهايتها ولم يحسنوا كتابتها.

"هي الليلة الأخيرة إذا تلك التي انتظرها... ليلة الفراق وليست العناق، ليلة الحرمان ...ليلة الغروب الأخير ...أنه الموت وربما هو الحياة"

وبعد، فأن "الليلة الأخيرة" هو نتاج فكر مسرح متقدم يرتبط بالواقع الاجتماعي ويتقدم في رؤياه ودلالاته الرمزية على الواقع المعاش، بل أنه يشكل رؤية متقدمة للحياة، وهو المشبع بالمعاني الاجتماعية، والمسؤولية الاجتماعية، رغم أن العمل مبني على التركيز والدلالات. هو عمل تحريضي لكل جوانب التخلف الاجتماعي، ونقد لميراث الاستبداد الاجتماعي الملوث بالأمراض والممارسات السلبية، وانتصار للحياة الجديدة.

وتبقى تجربة محمد سعيد الضنحاني الغزيرة بالتجارب والرؤى المتراكمة في مجال كتابة المسرح والدراما والشعر، هي العامل الحاسم في عملية استمرار الأبداع ونضوجه. مثلما شكل مكان التنشئة الوعاء الذي ازدادت قيمته بالتداخل مع العمل الفني والثقافي، فهو يعد عنصرا مؤسسا لكتابة النص الإبداعي، حيث التفاعل مع الزمن والشخوص المولدة له. وهذا هو سر بروزه كوجه ثقافي بارز في منطقة الخليج العربي صوتا وحضورا، مثلما يشكل ظاهرة فريدة في الإبداع والتنوع الثقافي.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات