إيلاف: يروي ستيفن ليفنغستون في سفره التاريخي الشيق "كينيدي وكينغ: الرئيس والقسّ ومعركة الحقوق المدنية" Kennedy and King: The President, the Pastor and the Battle Over Civil Rights (المكون من 511 صفحة، منشورات دار هاتشيت) قصة الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي بامرأة اسمها كوريتا سكوت كينغ، قبل أسبوعين على الانتخابات الرئاسية في عام 1960.
كينيدي ساهم في الإفراج عن كينغ السجين |
كان زوجها اعتُقل خلال اعتصام داخل إحدى الأسواق في مدينة أتلانتا عاصمة ولاية جورجيا، وبعد الإفراج عن جميع المعتقلين الآخرين، أُوقف مرة أخرى بسبب خرقه شروط تعليق حبسه عن مخالفة سابقة هي قيادة السيارة (وهو أسود) برخصة منتهية صلاحيتها. وحكم القاضي على القسّ الدكتور مارتن لوثر كينغ بالسجن ستة أشهر مع الأشغال الشاقة. ثم سمعت مسز كينغ أن زوجها نُقل إلى سجن شديد الحراسة يبعد 320 كلم.
الوالد المتعصب
ضغط كينيدي وراء الكواليس على حاكم ولاية جورجيا للإفراج عن كينغ، لكن كنيدي رفض الكلام علنًا، لأن المخاطرة بفقدان أصوات الناخبين في الولايات الجنوبية بدت أكبر من أي كسب يحققه بالدفاع عن كينغ.
وفي النهاية، أقنعه مستشاروه بالاتصال هاتفيًا بزوجة كينغ، التي كانت حاملًا في الشهر السادس، وقال لها إنه يعرف ما تعانيه، لأن زوجته بدورها حامل في شهرها الأخير، وسألها: "هل هناك شيء أستطيع أن أفعله للمساعدة"، وطلب منها الاتصال به في أي وقت.
حين أُفرج عنه بكفالة بعد يوم على اعتقاله، أشار مارتن لوثر كينغ إلى اتصال كينيدي، وصمت منافسه نائب الرئيس وقتذاك ريتشارد نيكسون. لم يعلن كينغ تأييده لترشيح كنيدي، لكن نبأ اتصاله بزوجة كينغ سرعان ما انتشر، ولا شك في أنه استنفر الناخبين السود لمصلحة كنيدي في انتخابات كانت متقاربة بشدة.
كان بين هؤلاء أسود جنوبي يحق له التصويت بخلاف غالبية السود الآخرين في الجنوب اسمه مارتن لوثر كينغ الأب، الذي أعلن أنه كان يريد التصويت ضد كينيدي بسبب دينه. أضاف كينغ الأب: "كينيدي يستطيع الآن أن يكون رئيسي، سواء أكان كاثوليكيًا أم يدين بأي ديانة أخرى". ضحك كينيدي مستغربًا من أن يكون لداعية حقوقي مثل مارتن لوثر كينغ والد متعصب دينيًا.
الأسود الجنوبي
هذه القصة متداولة منذ عام 1965، وكذلك القصص التي يرويها ليفنغستون في كتابه "كينيدي وكينغ" عن الاعتصامات والتظاهرات وتحدي التمييز في الحافلات والحملات من أجل الحقوق المدنية، وإنهاء الفصل العرقي في جامعات ميسيسبي وألاباما والمسيرة الجماهيرية الضخمة إلى العاصمة واشنطن، والكثير غير ذلك، بما فيه الحوارات المشهودة بين كينغ وكينيدي.
يلاحظ البروفيسور جيمس غودمان، أستاذ التاريخ والكتابة الخلاقة في جامعة ريتغرز الاميركية، أنه ما دامت المساواة العرقية والعدالة غائبتين، سيعود الكتاب والفنانون والسينمائيون إلى تلك الأيام الحافلة بالنضالات، حين أجبر الأميركيون السود وحلفاؤهم البيض الولايات المتحدة على تنفيذ وعودها بالحرية والمساواة أمام القانون وحقوق التصويت التي نص عليها الدستور الأميركي قبل 100 سنة.
يأخذ البروفيسور غودمان على ليفنغستون قوله إن الأسود الجنوبي كان أسير الخوف، خانعًا، سلبيًا، كسره الرجل الأبيض، في حين أن كتابًا آخرين أظهروا أن ساحة المواجهة أينما ذهب كينغ كان يعدّها له قادة محليون سود ومنظمون على مستوى القواعد الجماهيرية، بمن فيهم والد كينغ نفسه.
علاقة غريبة جمعت القس بالرئيس |
من هؤلاء المنظمين في مدينة مونتغمري عام 1955، روزا باركس، التي يقول الكاتب إنها كانت "سكرتيرة متطوعة كفوءة لفرع الجمعية الوطنية لتقدم الملونين، في قلبها ينبوع من النشاط الصامت. ولعل باركس كانت تجيد العمل الورقي والسكرتاريا، لكن عندما انطلقت الحملة لمقاطعة الحافلات التي تمارس الفصل العرقي، كانت وراء باركس عقود من المقاومة "غير الصامتة"، على حد تعبير غودمان.
وكافحت باركس ضد قوانين جيم كرو، التي تفرض الفصل العنصري في المدارس ووسائل النقل العام والمطاعم، وحتى في استخدام حنفيات الماء العمومية، وكافحت ضد العنف بحق المرأة منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
الأفراد الأبطال
يقدم ليفنغستون كتابه على أنه دراسة في القيادة تتناول "أفرادًا عظماء أو أبطالًا"، تركوا بصمة عميقة على مصائر العالم. لكن غودمان يقول إن كينيدي لم يكن قائدًا في حركة الحقوق المدنية، وحتى الأشهر الأخيرة من حياته كان ينظر إلى النضال من أجل المساواة على أنه معركة صوابية تلهي عن قضايا داخلية كبيرة (بينها الضرائب وأسعار الفولاذ) والشؤون الدولية في غمرة الحرب الباردة.
وعندما تحرك، إنما تحرك في رد فعل على العنف المريع الذي كشفت عنه حركة الاحتجاج السلمية"، بما في ذلك استخدام الهراوات ضد مناهضي الفصل العرقي في الحافلات الذين كانوا يُعرفون باسم "رُكَّاب الحرية"، وتفجير مصالح السود وبيوتهم وكنائسهم، والاعتداءات على التظاهرات باستخدام البلطجية ومدافع الماء والكلاب، وأعمال العنف في مدينة أوكسفورد في ولاية ميسيسبي.
لم يفعل كينيدي ما كان كينغ يحثه عليه طوال الوقت، وهو أن يعتبر الحقوق المدنية قضية أخلاقية، ويعترف بوجود أزمة لا تُحل بالقوة البوليسية الغاشمة أو الخطوات الرمزية، إلا في يونيو 1963 بعد معركة برمنغهام والمواجهة مع جورج والاس حاكم ألاباما.
بعد ساعات على خطاب كنيدي، قُتل الناشط الحقوقي الأسود ميدغار إيفرز. وأرسل كينيدي مشروع قانون إلى الكونغرس، لكن إقرار الحقوق المدنية في قانون تُرك بعد اغتيال كينيدي للرئيس ليندون جونسون، الذي وقع عليه في عام 1964.
من الصعب تعليم رئيس!
عليه لم يبق إلا كينغ، الذي كان بالفعل قائدًا ومعلمًا، قال ذات مرة: "من الصعب تعليم رئيس". ما يريد ليفنغستون إيصاله هو أن كينغ علَّم كينيدي أن يكون قائدًا، وقد علَّمه حقًا، لكنه لم يفعل ذلك وحده، فعلاقة كينغ بأتباعه كانت دائمًا معقدة. وثمة أبطال محليون، كبار وصغار (موضوع كتاب ليفنغستون) علَّموا كينغ ومستشاريه، الذين كانوا بدورهم يعلّمون آل كينيدي. وقال كينغ مقتبسًا المهاتما غاندي: "ها هو شعبي يسير، ويجب أن ألحق به لأنني قائده".
ما لا شك فيه هو أن كتاب "كينيدي وكينغ" يدفع القارئ إلى الاستخلاص بأن المطلوب اليوم ليس مزيدًا من القادة أو فئة قليلة من الرجال والنساء يقررون مصيرنا، بل المزيد من الأتباع.
المطلوب مواطنون اعتياديون، يكونون يقظين ومطّلعين وملتزمين ومعبئين وأصحاب نظرة مثالية من دون سذاجة، منتقدين، لكن من دون يأس، واثقين بأنفسهم وبما يريدونه، لكنهم مستعدون للعمل مع آخرين، يمارسون حقوقهم، التي دفعوا عنها ثمنًا باهظًا، وعلى رأسها حق التصويت. المطلوب باختصار المزيد من المواطنين المستعدين لقيادة القادة إلى مستقبل أكثر اشراقًا.