: آخر تحديث

البارادبلوماسية دولة المستقبل

2
2
3

يعود ارتباط مفهوم الدولة في الغرب إلى تطورات مستمرة، إلى خصوصية نشاط الفكر السياسي الغربي الذي يربط مفهوم الدولة وهيكلتها بالتطورات التكنولوجية، لأن من شروط تكوين الدولة المعاصرة في هذا الفكر استجابتها الحيوية لتلك التطورات.

تجلّى تطوير مفهوم الدولة الغربية أواخر القرن العشرين في تحولات عظمى في بنى الفعالية الدولية وأنماط تفاعلها العالمية، وتمثلت بالتنافس اللامركزي في بناء الحكومات التي تُمنح مزيدًا من السلطات والصلاحيات، وتُتاح لها مصالح اقتصادية وثقافية ملائمة لبيئتها المحلية وخصوصيتها ومقدّراتها الذاتية، وقد لا يمكن للدولة المركزية أن تتيح مثل هذه الفرص للبيئة المحلية الخاصة بكل تكوينات الدولة. ويُضاف إلى ذلك إفساح المجال لمشاركتها الأساسية والفعّالة في إدارة الشؤون الخارجية التي تبقى حكرًا على الدولة المركزية.

أطلق المفكرون السياسيون على هذه البنية للدولة مصطلح "البارادبلوماسية"، وهي نظام حكم يعيد هيكلة العلاقات بين المركز والأطراف من جهة، وبين الأطراف والخارج من جهة أخرى. وقد نشأ هذا المصطلح بوصفه نحتًا من كلمتي دبلوماسية وموازية على يد الباحث البريطاني روهان باتلر في ستينيَّات القرن العشرين. وصاغ تعريفه الإجرائي بانايوتيس سولداتوس بأنه "النشاط الدولي المباشر للفواعل دون الوطنية، وحدات فيدرالية، أقاليم، جماعات حضرية، مدن، وهو يدعم أو يُكمل أو يُصحّح دبلوماسية الدولة القومية".

من غير شك أننا سنحظى بنماذج تاريخية للبارادبلوماسية بوصفها أنظمة حكم، ولا سيما في القرن الثامن عشر، فقد تجلّت في ممارسات الولايات المتحدة الأميركية عن طريق مشاركة ممثليها في الكونغرس ونفوذهم في ترشيد الرئاسة والمحكمة العليا الأميركية. لكن في الحقيقة بقيت تلك الهيكلية للبارادبلوماسية مقيّدة بالمركزية وخاضعة لشروطها، فلم تتحرر بما تبتغيه البارادبلوماسية في أهدافها العميقة.

كشف في هذا السياق الباحث الشهير فرانسيس فوكوياما خطأ تقييد البارادبلوماسية بالنظام المركزي الأميركي، ورأى "أن صنع القرار اللامركزي أقرب إلى مصادر المعلومات المحلية، وأن الصناعات بطبيعتها أكثر استجابة للشروط والتغيرات التي تطرأ على البيئة المحلية، فمنح الحكومات المحلية مزيدًا من السلطات إلى الحكومات الفرعية يؤدي إلى التنافس الخلّاق على تجارب الإصلاح السياسي، وتحسين نوعية الديمقراطية بما يكفل إبداعًا نوعيًا في تطوير مختلف بنى الدولة".

ولقد لفت الباحثون في تطوير دولة البارادبلوماسية النظر إلى أن إبراز مظاهر تطورها يتجلّى بتحويل إدارة الدولة إلى إدارة شركة يرأسها مجلس إدارة، فيه التصويت والترجيح واستقلالية الأعضاء بتمثيل خصوصية ومتطلبات كياناتهم. وفي هذه البنية تتخلص دولة البارادبلوماسية من قيود البيروقراطية المركزية واستراتيجياتها الكلاسيكية في سياسة النمو المقيد بالمركز لصالح النمو الحر للأطراف.

بالتأكيد أنَّ دولة البارادبلوماسية هي دولة المستقبل في العالم، لكن لن تكون بالأهمية نفسها في دول العالم الثالث الذي ما زال يهيم بعشق عمليات تجميل الدولة القبلية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.