: آخر تحديث

الذكاء الاصطناعي بوصفه قدرًا جديدًا للبشرية

4
3
4

 

لم يَعُد الذكاء الاصطناعي فكرةً مؤجَّلة في مستقبلٍ بعيد، ولا وعدًا تقنيًّا يخصّ المختبرات وحدها. لقد أصبح حاضرًا يتسلّل بهدوء إلى تفاصيل حياتنا اليومية، يغيّر طريقة تعلّمنا، وأساليب عملنا، وحتى أنماط تواصلنا مع أنفسنا ومع الآخرين. لم يَعُد مجرّد أداة، بل قوّة صامتة تعيد تشكيل التجربة الإنسانية ذاتها. ولعلّ المفارقة الدالّة أنّ هذا النص نفسه، كما كثير من النصوص اليوم، مرّ عبر يدٍ خوارزمية قبل أن يصل إلى القارئ، في مشهدٍ يكثّف طبيعة اللحظة التي نعيشها.

الذكاء الاصطناعي، في جوهره، ليس قصةً تقنيةً بحتة، بل فصلٌ جديد من تاريخ الإنسان. فكما شكّلت النار نقطة تحوّل حاسمة في مسار البشرية، وكما أعادت الزراعة والصناعة والحوسبة رسم صورة العالم، يأتي الذكاء الاصطناعي اليوم بوصفه تكنولوجيا عامة، قادرة على إحداث تغييرات لا تمسّ الأدوات فقط، بل تمسّ الإنسان نفسه. النار لم تمنحنا الدفء فحسب، بل أعادت تشكيل أجسادنا، وغيّرت جهازنا الهضمي، وأنماط عيشنا، وبنية مجتمعاتنا. وكذلك تفعل كلّ تقنية كبرى: لا تخدم الإنسان فقط، بل تعيد صناعته. ومن هذا المنظور، يصبح الذكاء الاصطناعي مرشّحًا لأن يكون في أهمية النار، وربما في خطورته أيضًا.

ما يميّز هذه الموجة التقنية عن سابقاتها هو أنّها تستهدف جوهر ما اعتدنا اعتباره حكرًا على الإنسان: الذكاء، والإبداع، والقدرة على المحاكاة والتعلّم. فمنذ منتصف القرن العشرين، حين طرح آلان تورينغ سؤاله الشهير: «هل يمكن للآلة أن تُقنع الإنسان بأنّها إنسان؟»، ظلّ هذا السؤال معلّقًا بين الفلسفة والرياضيات. واليوم، وللمرّة الأولى، نجد أنفسنا أمام أنظمة قادرة على الكتابة، والرسم، والتأليف، والتحليل، بطريقة تجعل الإنسان يتردّد: أأنا أمام أداة أم كيان يحاكي الوعي؟ ومع ذلك، فإنّ هذه اللحظة ليست ذروة المسار، بل بدايته فقط. وهنا ينبثق السؤال الفلسفي الأكثر إلحاحًا: ماذا يعني أن نكون بشرًا في عالمٍ تصبح فيه الآلة قادرة على تقليد ذكائنا وإبداعنا، وربما تتجاوزه في بعض المجالات؟

الفرص التي يفتحها هذا التحوّل هائلة، لكنّها لا تأتي دون أثمان. فالذكاء الاصطناعي لا يعمل في فراغٍ أخلاقي، بل داخل عالمٍ بشريٍّ مثقل بالتوتّرات والصراعات وسوء الاستخدام. كثير من النقاش العام انجرف نحو سيناريوهات كارثية كبرى: سيطرة الآلات، فقدان السيطرة، نهاية الإنسان. وهي مخاوف ليست مستحيلة، لكنّها بعيدة ومشروطة. الأخطر من ذلك هو ما يحدث بالفعل، هنا والآن: استخدام الذكاء الاصطناعي في التضليل، وصناعة الأكاذيب المُقنِعة، وتزييف الواقع على نطاق غير مسبوق. فقبل أن «تقضي علينا الآلات»، قد يستخدمها البشر ضدّ بعضهم البعض بمهارة تفوق كلّ ما عرفناه من قبل.

في هذا السياق، لا يبدو التزييف العميق مجرّد تقنية جديدة، بل زلزالًا يصيب مفهوم الحقيقة ذاته. نحن نعيش داخل منظومة رقمية حديثة العهد، لكنّها أصبحت العمود الفقري للحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. هذه المنظومة كانت تعاني أصلًا من هشاشة الثقة، وجاء الذكاء الاصطناعي ليضاعف الأزمة: كلّ صورة قابلة للتركيب، كلّ صوت قابل للتقليد، كلّ فيديو محتمل التزييف. لم يَعُد السؤال: «هل هذا حقيقي؟» بل: «هل يمكن لأيّ شيء أن يكون حقيقيًّا؟». وعندما تتآكل الثقة، تتصدّع أسس الاجتماع الإنساني.

ومع ذلك، لا يخلو المشهد من محاولات للمواجهة. فهناك مساعٍ تقنية لتطوير أدوات تكشف المحتوى المُولَّد بالذكاء الاصطناعي، بالرغم من محدوديتها. وهناك أفكار أكثر عمقًا، مثل توثيق أصل المحتوى وربط كلّ معلومة بهوية رقمية تكشف مصدرها، بحيث يصبح الصدق جزءًا من بنية المعلومة نفسها. غير أنّ الحلول التقنية وحدها لا تكفي؛ فالمسألة في جوهرها ثقافية وأخلاقية، تتعلّق بكيفية إدراكنا للواقع، وباستعدادنا للتشكيك الواعي بدل التصديق الساذج.

حتى في أكثر المناطق حميمية في حياتنا، بدأ الذكاء الاصطناعي يمدّ ظلاله. العلاقات الإنسانية لم تَعُد بمنأى عن هذا التحوّل. نماذج المحادثة القادرة على محاكاة العاطفة خلقت أشكالًا جديدة من الارتباط، بعضها يبدو مقلقًا، وبعضها يثير أسئلة أخلاقية معقّدة. هل يكفي الإحساس بالدعم العاطفي، حتى لو كان صادرًا عن آلة؟ وهل الوحدة تُعالَج بالوهم إذا كان الوهم أقلّ قسوة من العزلة؟ ربما لا توجد إجابات جاهزة، فكلّ حالة تحمل سياقها الخاص، وما يبدو مرفوضًا فلسفيًّا قد يكون خلاصًا عمليًّا لإنسانٍ وحيد.

في نهاية المطاف، لا يفرض الذكاء الاصطناعي علينا مستقبلًا محدّدًا، بل يضعنا أمام مرآة كبرى. إنّه يكشف هشاشتنا، وطموحنا، ومخاوفنا، وقدرتنا على الخلق والتدمير في آنٍ واحد. الصورة لم تَعُد تساوي ألف كلمة، لأنّها قد تكون مصنوعة بالكامل. لكنّ هذا لا يعني نهاية المعنى، بل انتقاله إلى مستوى جديد من الوعي. وكما لم تُلغِ الكاميرا الرسم، لن يُلغي الذكاء الاصطناعي الإنسان. إنّه يغيّر شروط التعبير، ويدعونا إلى إعادة تعريف الحقيقة، والإبداع، والمسؤولية. وهنا، تحديدًا، تبدأ القصة الحقيقية: قصة الإنسان وهو يحاول أن يفهم نفسه، في زمنٍ صارت فيه الآلة قادرة على تقليده.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.