في العراق، حيث تتشابك الحكايات مع الأزمنة، ويمتزج الحبر بوجع الناس وضحكاتهم، نشأ فن الكاريكاتير كمدرسة عميقة الجذور، لا تُشبه رسومات عابرة، بل ذاكرة بصرية تحفظ ملامح المجتمع وتعيد صياغة الواقع بخطوط ساخرة ونافذة. ومنذ ثلاثينات القرن الماضي، مع صحيفة حبزبوز عام 1931، حين حمل غازي البغدادي وعبد القادر الرسام أقلامهم ليعرّوا الواقع، بدأ هذا الفن يخط مساره الخاص، ليصبح مرآة ناقدة وصرخة مكتومة في وجه السلطة والظروف.
ومع سبعينات وثمانينيات القرن العشرين، برزت أسماء صنعت من الكاريكاتير مدرسة ثانية أكثر جرأة وعمقًا: على المندلاوي، مؤيد نعمة، خضير الحميري، رائد نوري، بسام فرج، ضياء الحجار، عبد الرحيم ياسر، وعادل شنتاف وغيرهم، ممن جعلوا من الخطوط المتعرجة والوجوه المبالغ فيها لغة بصرية جديدة، تُضحك القارئ لكنها توقظه، وتفتح أمامه أبواب التفكير والتأمل.
من بين هؤلاء، يبرز خضير الحميري كصوت مختلف، شاعر بصري وصحفي يكتب مقالاته بالرسوم، يضحك ويبكي في آن، ويحوّل الكاريكاتير إلى أداة حيّة للتفكير والإبداع، وإلى صوت أعلى من كل ضوضاء السياسة والواقع.
وُلد في الحلة عام 1955، وفي قلبه خطوط تتعرج منذ الصغر، تحمل أحلامًا وصراخًا وصمتًا، حتى صارت أقلامه سلاحًا وفنًا وسخرية مرسومة على وجه الحياة. وبالرغم من دراسته للاقتصاد، اختار أن يقيس العالم بأنوف كبيرة ووجوه مشوهة، ليحوّل الواقع السياسي والاجتماعي إلى قصة قصيرة تُقرأ في نظرة واحدة أو ضحكة مكتومة.

بدأ رحلته مع مجلة ألف باء عام 1979، تلك الحاضنة التي احتضنت السخرية كفن ناضج، لكنه ظل يبحث عن صوته الخاص بعيدًا عن التقليد. في رسوماته، غالبًا ما يختزل المشهد إلى شخصين يجلسان على طاولة السخرية، يتبادلان حوارًا صامتًا لكنه صاخب في معانيه. لم يكن هدفه الإضحاك وحده، بل الإيقاظ، وإثارة التساؤل، والتأمل في الأخبار اليومية والخراب الذي يختبئ خلف العناوين.
الحميري ناقد بصري يعرّي السلوكيات السلبية في المجتمع، ويواجه الحياة السياسية العراقية بسخرية جريئة لا تعرف المجاملة. يتناول الفساد بألوانه المتعددة، ويكشف عجز تشكيل الحكومات وانسداد العملية السياسية، ليحوّل الخطوط المتعرجة إلى مقالات بصرية حادة، تُضحك القارئ لكنها تلسعه في العمق. شديد الذكاء، ينسج رسومات تبدو بسيطة وواقعية، لكنها تحمل طبقات من الرمزية والمعنى، لا تُفك شيفرتها إلا حين يُستدعى العقل للتأمل. بذلك، يضع نفسه في مصاف كبار الساخرين البصريين الذين حوّلوا الضحك إلى وعي، والرمز إلى سلاح، ليذكرنا ببهجوري وصلاح جاهين وحجازي وناجي العلي.
في كل خط ينبض الواقع العراقي بتناقضاته: فرح وحزن، سخرية وقلق. الأنوف الكبيرة والأجساد القزمة ليست مجرد أسلوب بصري، بل لغة فنية تُجسّد الشخصية العراقية: هشّة لكنها مقاومة، صغيرة لكنها تتحدث بصوت عال. أسلوبه يقوم على الاقتصاد في التفاصيل، ويترك مساحة للتأمل، ليصبح الكاريكاتير عنده تأملًا بصريًا في المجتمع، وليس مجرد نكتة عابرة.
زواياه الثابتة مثل روتين التعقيدي وشعيط ومعيط لم تكن مجرد تسميات، بل أدوات فكرية لتركيز الفكرة وإعطائها إطارًا رمزيًا، يجعل القارئ يتعرف على النمط الفكري للرسام ويكتشف رسالته عبر التكرار. كل زاوية دراسة صغيرة للحياة العراقية، مكتوبة بحبر السخرية ومرسومة بخطوط تتحدث عن الألم والمرح في آن واحد.
شارك الحميري في معارض محلية ودولية، وعُرفت أعماله في اليابان وبلجيكا وفرنسا وكوبا وروسيا وتركيا ومصر، مما أكسبه تقديرًا عالميًا. حصل على جوائز وميداليات، واختير كأفضل رسام ساخر من نقابة الصحفيين العراقيين، ليصبح رمزًا للكاريكاتير العراقي ومرجعًا للأجيال الجديدة. كما أصدر كتبًا مثل كاري كاتير ورسوم مندسة عام 2021.
هكذا يتجاوز الكاريكاتير عنده حدود الورق، ليصبح شهادة على زمن مضطرب، وذاكرة بصرية تحفظ تفاصيل الناس وهمومهم، وتحوّل السخرية إلى وعي جمعي. رسوماته ليست مجرد خطوط، بل نصوص صامتة تنطق بما عجزت عنه الكلمات، وتحوّل الضحكة العابرة إلى موقف، والملامح المبالغ فيها إلى رموز تختزن تاريخًا من الألم والمقاومة.
وفي كل لوحة، يثبت أن الفن ليس زينة للواقع، بل سلاحًا ناعمًا يواجه القسوة، وصوتًا يخرج من بين جدران الصمت ليبقى حاضرًا في الذاكرة، وصرخة جريئة في زمن يكثر فيه الصمت.
في رسوماته، تتجسد ملامح العراق بكل تناقضاته؛ فرح وحزن، سخرية وقلق، هشاشة ومقاومة. إنه يكتب ذاكرة لا تُمحى، ويحوّل الضحكة العابرة إلى موقف إنساني، والرمز البسيط إلى شهادة على حياة كاملة، بهذا المعنى، يصبح الكاريكاتير عنده صوت الناس، وذاكرة جماعية تتحدى النسيان، في زمن يكثر فيه الصمت وتقل فيه الجرأة.


