: آخر تحديث

الحواجز العسكرية بالضفة: الأمن ذريعة والضحية المدنيون

2
2
2

على الطرقات المؤدية إلى مدن وبلدات الضفة الغربية، لم تعد الحياة تسير بإيقاعها الطبيعي. فكل صباح، تتجسد المعاناة اليومية في طوابير السيارات الممتدة، والوجوه المتعبة التي تنتظر لساعات طويلة عند نقاط التفتيش والحواجز العسكرية التي تزايدت بشكل ملحوظ في الأشهر الأخيرة. هذا التكثيف، بحسب شهادات مئات المواطنين، لم يعد مجرد إجراء أمني روتيني، بل أصبح أداةً محورية لفرض السيطرة، وتكبيل الحركة، وتعطيل كل أوجه الحياة.

تأتي هذه الإجراءات الميدانية المشددة في ظل تصاعد التوترات الأمنية، خاصةً مع استمرار العدوان على قطاع غزة وتزايد المواجهات في الضفة الغربية. وفي هذا الصدد، تزعم مصادر أمنية فلسطينية مطلعة، في تباين واضح مع الرواية الرسمية للسلطة، أن الانتشار المكثف للحواجز هو نتيجة مباشرة للأنشطة العسكرية التي تقوم بها حركتا حماس والجهاد الإسلامي. وتؤكد هذه المصادر أن هاتين المنظمتين تسعيان، حسب قولها، إلى «إشعال المنطقة»، مما يضع السكان الفلسطينيين في خطر كبير، ويجرّهم «رهائن لأنشطتهما».

لكن هذه الرواية الأمنية لا تتفق تمامًا مع الموقف الرسمي. فقد صرح المستشار السياسي لوزير الخارجية الفلسطيني بأن هذه الحواجز ليست سوى شكل من أشكال العقاب الجماعي، وأنها جزء من سياسة ممنهجة لتضييق الخناق على الفلسطينيين. هذه الرؤية السياسية ترى أن الاحتلال يستغل أي تصعيد ميداني كذريعة لتنفيذ مخططاته الأوسع نطاقًا، والتي تهدف إلى تفكيك النسيج الاجتماعي والاقتصادي في الضفة الغربية، وعزل المدن والقرى عن بعضها البعض، مما يجعل من إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة أمرًا شبه مستحيل.

بصرف النظر عن الروايات المتضاربة حول الأسباب، يبقى الأثر المباشر لهذه الحواجز هو ما يحدد حقيقة الواقع اليومي. فطلاب الجامعات يضطرون للاستيقاظ قبل الفجر بساعات لضمان وصولهم في الوقت المحدد، وكثيرون منهم يفوّتون محاضراتهم أو امتحاناتهم بسبب التأخيرات الطويلة. كما أن المرضى، وخاصة كبار السن، يواجهون مخاطر حقيقية عند محاولة الوصول إلى المستشفيات والمراكز الطبية. وقد وثقت العديد من الحالات التي تدهورت فيها الحالة الصحية لمرضى بسبب التأخير لساعات طويلة عند الحواجز. أما التجار والاقتصاديون، فإن حواجز الاحتلال تفرض عليهم خسائر هائلة، حيث تتلف البضائع وتتأخر الشحنات، مما يضرب قطاعات حيوية مثل الزراعة والصناعة في الصميم.

إن هذا الاستخدام المفرط للحواجز لا يمكن فصله عن سياقه التاريخي. فمنذ عقود، استُخدمت الحواجز العسكرية من قبل الاحتلال كأداة للسيطرة والردع والعقاب الجماعي. لقد وثقت منظمات حقوقية دولية، مثل بتسيلم وهيومن رايتس ووتش، بشكل مفصل كيف أن هذه الحواجز تحولت من إجراءات مؤقتة إلى نظام دائم من التضييق، يهدف إلى التحكم في كل تفصيلة من تفاصيل حياة الفلسطينيين. هذه الإجراءات، بطبيعتها، تخالف بشكل صارخ مبادئ حرية الحركة التي يكفلها القانون الدولي، وتجعل من ملايين الفلسطينيين محاصرين فعليًا في مناطقهم.

في خضم هذه المعضلة، يجد الفلسطينيون أنفسهم مضطرين لدفع ثمن صراعات لا يملكون قرارها. فالمدنيون، سواء كانوا مؤيدين لهذه الفصائل أو معارضين لها، يجدون أنفسهم في خط المواجهة، يدفعون فاتورة العزلة والمعاناة اليومية. وهذا ما يستغله الاحتلال بذكاء، حيث يحاول تبرير إجراءاته القمعية تحت غطاء "الأمن"، مستفيدًا من أي انقسامات فلسطينية داخلية.

في النهاية، حتى لو كانت هناك اعتبارات أمنية حقيقية، فإن مبدأ العقاب الجماعي يظل مرفوضًا من كل المنظمات الحقوقية والأخلاقية. لا يمكن أبدًا أن يصبح المدنيون رهائن لسياسات عسكرية، أو أن يُعاملوا كمتهمين جماعيًا. إن الحواجز العسكرية ليست مجرد نقاط تفتيش، بل هي تجسيد ملموس لسياسة احتلال لا ترى في الفلسطينيين سوى أرقامًا يمكن التحكم فيها، وأهدافًا يمكن معاقبتها. إن ما يجري اليوم في الضفة الغربية ليس إجراءً احترازيًا عابرًا، بل هو فصل جديد من عقيدة الاحتلال التي ترى في السيطرة والردع الجماعي وسيلة لإدارة شعب بأكمله. والنتيجة الحتمية: مزيد من القهر، مزيد من الغضب، ومزيد من انعدام الأفق.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.