: آخر تحديث

النفس ليست مثلثاً… بل متاهة بتسعة أبواب

18
15
9

حين قسّم فرويد النفس الإنسانية إلى ثلاثة أقسام: الهو، الأنا، والأنا الأعلى، كان يظن أنه وضع اليد على البنية الجوهرية للإنسان، لكنني شخصيًا كلما تعمقت في التجربة البشرية، أدركت أن هذه القسمة ليست سوى بداية طريق وليست نهايته.

النفس أكثر تشعبًا من أن تُختزل في ثلاث قوى تتنازع السيطرة، هي متاهة كاملة، فيها أبواب كثيرة، بعضها مفتوح على الضوء وبعضها غائر في العتمة، ومن هنا جاءت محاولتي لصياغة نظرية جديدة، لا تكتفي بالثلاثية، بل تتسع لتسعة أصناف أو وجوه للنفس، كل وجه منها يكشف جزءًا من الحقيقة كما أعتقد، وكلها مجتمعة لا تكتمل إلا في جدلية مستمرة.

الوجه الأول هو الهو، مصدر الغرائز والدوافع الخام، طاقة جائعة لا ترى إلا ما تريد، هو الطفل الذي يعيش فينا، الصارخ، المتمرد، الباحث عن الإشباع الفوري. والوجه الثاني هو الأنا، المفاوض والوسيط، الذي يحاول أن يلبس الرغبات ثوب الواقع، فيوازن بين الممكن والممنوع، أما الوجه الثالث فهو الأنا الأعلى، ضمير يقظ أو جلاد داخلي، يرفع سوط المثاليات ويطالب بالكمال، لا يرضى بالقليل ولا يبرر الانحرافات. هذه الثلاثية التي أسس عليها فرويد تحليله، لكنني أزعم أن ثمة ستة وجوه أخرى لا تقل تأثيرًا.

الرابع هو الظل، ذلك الكنز المظلم من الرغبات والأفكار المكبوتة التي لا نجرؤ على الاعتراف بها. إنه الغرفة المغلقة في أعماقنا، حيث نضع كل ما نخشاه أو نخجل منه. أما الوجه الخامس فهو القناع، الوجه الذي نرتديه أمام المجتمع، الشخصية الاجتماعية التي نتبناها كي نحظى بالقبول أو لنتجنب الرفض، هو ببساطة الدور المسرحي الذي نؤديه يوميًا حتى نكاد ننسى أننا ممثلون.

الوجه السادس هو الذات العليا، البعد الروحي، الحكمة العميقة التي تسكننا، الصوت الذي يتجاوز الأنا الأعلى لأنه لا يحاكم بالذنب بل يرشد بالنور، ويعطي إحساسًا بالمعنى والاتصال بشيء أعظم.

أما السابع فهو اللاشعور الجمعي، ذلك المحيط العميق الذي تحدث عنه يونغ، حيث ترقد الرموز والأساطير التي تتكرر في الثقافات كلها، وكأن البشرية بأسرها تتشارك ذاكرة واحدة…!

الثامن هو الجسد النفسي، أي ذلك الجزء الذي يترجم الصراعات إلى أعراض جسدية: ألم بلا سبب عضوي، أو مرض يفضح اضطراب الروح. وهنا نرى أن النفس ليست عقلًا فقط، بل جسدًا يتكلم بلغة أخرى…؟

والتاسع، الذي أهمله فرويد تمامًا، هو الزمن الداخلي، ذلك الإحساس العجيب بتدفق الوقت داخل وعينا: الماضي الذي يلاحقنا، المستقبل الذي يغرينا، والحاضر الذي يتلاشى بين أصابعنا. إنه البعد الزمني للنفس، وهو الذي يجعل تجاربنا لا تُفهم إلا كتتابع أو كدوامة.

بهذه الوجوه التسعة تصبح النفس أكثر قربًا من الواقع، وأكثر صدقًا مع التجربة الإنسانية، فهي ليست مجرد ساحة صراع بين شهوة وضمير ووسيط، بل شبكة معقدة تتحرك فيها طبقات الوعي واللاوعي، الفردي والجماعي، الروحي والجسدي، الزمني والرمزي. وكل محاولة لتبسيطها إلى ثلاثة أصناف، مهما كانت عبقرية، تنتهي إلى بتر أجزاء من الإنسان لا تقل أهمية.

لكنني لا أرفض فرويد بالكلية. لقد أنقذ النظرية من البدائية، حين جرّد النفس من الرومانسية وأدخلها المختبر، وجعلها موضوعًا قابلًا للتفكيك والتحليل. غير أن إنقاذ فرويد اليوم لا يتم عبر ترديد ما قاله، بل عبر تجاوزه. علينا أن نقول: نعم، الهو موجود، والأنا والأنا الأعلى حقيقيان، لكن هناك ما هو أعمق، وما هو أكثر تنوعًا. النظرية الثلاثية مثل خريطة أولية لمدينة ضخمة، تظهر الشوارع الرئيسية وتغفل الأزقة والميادين، لكن حين نضيف إليها الوجوه التسعة، نصبح أقرب إلى صورة كاملة، حتى وإن بقيت ناقصة بالضرورة.

النقد الأكبر لفرويد أنه اعتقد أن العقل يمكن تفسيره بمنطق الصراع وحده. كأن النفس ليست إلا ساحة حرب بين رغبات وغرائز ومثاليات. لكن ماذا عن الحب؟ ماذا عن الحنين؟ ماذا عن التجربة الجمالية التي لا تبحث عن منفعة ولا عن كمال أخلاقي، بل عن دهشة صافية؟ هذه التجارب لا مكان لها في مثلث فرويد، لكنها تجد مجالًا في الوجوه التسعة: في الذات العليا، في الزمن الداخلي، وفي اللاشعور الجمعي.

النفس بهذا المعنى ليست مثلثًا بل متاهة، ولعلها متاهة بعدد أكبر من تسعة أبواب، لكنني أكتفي بهذا الرقم لأن التسعة ترمز في كثير من الثقافات إلى الاكتمال قبل الانفجار. إنها أقصى درجات التعدد قبل أن يتحول إلى فوضى. وكل وجه من الوجوه التسعة هو باب مفتوح على سؤال جديد: من نحن؟ وكيف نرى أنفسنا؟ وكيف نعيش بين طيش الهو وقسوة الأنا الأعلى، بين حكمة الذات العليا وأثقال الظل، بين قناع المجتمع وصوت الجسد، بين ذاكرة البشرية وإحساسنا المتغير بالزمن؟

إنني لا أزعم أنني أغلقت الدائرة، ولا أن هذه الأبواب التسعة تكفي لتفسير النفس بالكامل، لكنها محاولة لإنقاذ نظرية التحليل النفسي من الجمود، ومنحها أفقًا أوسع، ربما يأتي يوم يضيف فيه جيل آخر أبوابًا جديدة، وربما يتضح أن النفس بحر بلا شاطئ. لكن ما أعلمه يقينًا هو أن اختزال الإنسان في ثلاث قوى متناحرة لا يليق بعمق التجربة البشرية. نحن لسنا مجرد مزيج بين رغبة وواقع ومثال. نحن مخلوقات من تسعة وجوه على الأقل، وربما أكثر، وكل وجه منها يخبرنا أن الحقيقة أوسع من أي نظرية.

تُعَدّ نظرية الأبواب التسعة للنفس البشرية إطارًا تفسيرياً يهدف إلى تحليل أبعاد النفس الإنسانية عبر تسعة مستويات متكاملة، بحيث يُسهم كل باب في الكشف عن جانب محدّد من السلوك والوعي والدوافع الداخلية، مما يتيح مقاربة شمولية لفهم التكوين النفسي للإنسان.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.