: آخر تحديث

وعادت حليمة إلى عاداتها القديمة!

1
1
2

رغم تحرّر المغرب من أدران الاستعمار سنة 1956، ما زال يتعرّض لابتزاز متواصل، ويعاني من ترسّبات الذهنية الاستعمارية لما كان يُعرف بتسمية “الإقامة العامة”، التي حكمت البلاد بمنطق الاحتلال إبّان الحمايتين الفرنسية والإسبانية.

وإذا كان عهد “المقيم العام” الفرنسي قد وَلّى إلى غير رجعة مع استقلال المغرب عن فرنسا، فإن سلوكاته ما زالت مترسّبة في بعض الأوساط الدبلوماسية والإعلامية هناك.

مناسبة هذا الكلام هي قيام صحيفة "لوموند" الفرنسية، أخيرًا، بتقييم ستة وعشرين عامًا من حكم الملك محمد السادس؛ إذ رسمت، بمنطق تفكير الأماني والتوهّمات، صورة قاتمة عن الوضع في المغرب، متطاولةً على شخص الملك، وزاعمةً ـ بكل سذاجة ـ أنه لا يرغب في الحكم. وتلك، لعمري، قمّة الافتراء وضربٌ من ضروب الوهم.
فكيف يُعقَل أن يرفض ملك المغرب ممارسة الحكم، وهو الذي، منذ تولّيه عرش البلاد صيف عام 1999، انخرط بحرص وحماس وإصرار في أوراش إصلاحية ومشاريع غيّرت كليًا وجه البلاد وصورتها، تغييرًا لا ينكره إلا جاحد أو حاقد، أو من ابتُلي بعمى البصيرة؟
لقد ساد الاعتقاد، منذ سنوات، بأن زمن الابتزاز الإعلامي للمغرب قد انتهى، بعد تورّط الصحافيَّين الفرنسيَّين إريك لوران وكاترين غراسيه في ما عُرف بـ”قضية ابتزاز ملك المغرب”، أي محاولة الحصول على أموال مقابل الامتناع عن نشر كتاب مسيء للمملكة المغربية.
إثر ذلك، تبين للجميع حجم الإساءة الإعلامية الفرنسية التي تعرّض لها المغرب على امتداد عقود، ومنها إساءات "لوموند"، التي لا تكفّ، مثل “حليمة”، عن العودة بين الفينة والأخرى إلى عاداتها القديمة.

أيقن المغاربة أيضًا أن ما تكتبه "لوموند" ليس غيرةً عليهم، بل طمعًا في نصيب بلدها كلما لاح في الأفق ما تعتبره “كعكة” قابلة للاقتسام، ولاسيما ما يتعلّق بحصتها من صفقات الأشغال الكبرى التي يباشرها المغرب لتطوير البنيات التحتية والتجهيزات الأساسية في قطاعات الطرق، والسكك الحديدية، والموانئ، والمطارات، والكهرباء، وتحلية مياه البحر، والطاقات المتجددة، والنقل الجوي، وبناء المستشفيات الكبرى، وتشييد الملاعب الضخمة بمعايير عالمية، وتوسيع شبكات الترامواي، وصولًا إلى مجال التسلّح والعتاد العسكري، وغير ذلك.

لقد شكّل المغرب دائمًا بالنسبة إلى صحيفة "لوموند" ومحرضيها عقدةً استعصت على الشفاء. فهي لم تستسغ بعد أن المغرب، الذي فُرّق دمه بين قبائل الاستعمار: إسبانيا في الشمال والجنوب، وفرنسا في الغرب والوسط والشرق وأجزاء من الجنوب أيضًا، استطاع بعد الاستقلال أن يخوض بصبر وآناة معركة استعادة وحدته الترابية، بعدما جرى اجتزاء الكثير من أراضيه وضمّها إلى الجزائر التي احتلّتها فرنسا مائة وخمسين عامًا، ولم تتخيّل يومًا أنها ستخرج منها، فقضمت أراضي شاسعة من المغرب وألحقتها بالجزائر. 

إن الحقيقة التي تُزعج "لوموند" وعرّابيها تكمن في قوّة المغرب بنظامه الملكي، إذ شكّلت الملكية دومًا بالنسبة للمغاربة “بوليصة تأمين” أساسية للاستقرار ووحدة الوطن والأمة.

تحاول "لوموند" أن تروّج لفكرة “نهاية عهد” في المغرب، وكأنها هي التي تقرّر وتحدّد أعمار قادة الدول، متجاهلة أولًا أن المؤسسة الملكية في المغرب لها تاريخ عريق من الاستمرارية والشرعية الدينية والشعبية، ومصرّةً ثانيا على تجاهل حقيقة ظاهرة لكل من يتابع الوضع في المغرب، وهي أن مسألة الكشف عن صحة الملك لا تشكّل عقدة في الرباط، إذ صدرت بيانات رسمية عديدة عن الديوان الملكي، موقَّعة من أساتذة أطباء بارزين ومعروفين في الداخل والخارج، تتعلّق بصحة العاهل المغربي منذ توليه مقاليد الحكم، وهي بيانات متاحة على شبكة الإنترنت.

إن الإصلاحات والتطورات التي شهدها المغرب في شتى المجالات، وعلى رأسها البنيات التحتية، لا تجد عند صحيفة "لوموند" إلا التجاهل والتعتيم. وحتى إذا اضطُرّت إلى الاعتراف بها، فإنها لا تنظر إليها بعين الرضا. فهي تُصرّ على غضّ الطرف عن مسار التحوّل العميق الذي وسم السنوات الست والعشرين الماضية.

ومهما يكن، تبقى المنجزات وحدها كفيلة بالكشف عن الزخم الذي عرفته البلاد في عهد الملك محمد السادس. فهل نبدأ بالمطارات المنتشرة في سائر أنحاء البلاد؟ أم بمينائي “طنجة المتوسط” و”الداخلة الأطلسي”؟ أم بالطرق السيارة وقطار “البُراق” فائق السرعة الذي وصل إلى الدار البيضاء قبل سنوات وسيمتدّ إلى مراكش قبل 2030؟ دون أن ننسى تواصل بناء السدود، ومحطّات تحلية المياه، ومشاريع الطاقة المتجددة، وعلى رأسها مركّب “نور-ورزازات”، أضخم محطة للطاقة الشمسية في العالم، فضلًا عن تشييد ملاعب كبرى لكرة القدم هي الأضخم في العالم العربي وإفريقيا.

وماذا عن الأوراش الاجتماعية الكبرى؟ أليست واضحة معالمُ التعميم التدريجي للحماية الاجتماعية، وتوسيع التغطية الصحية، وتقديم الدعم المباشر للأسر الضعيفة؟

إن قائمة الإنجازات طويلة وعريضة، فهي مثل الشمس لا يمكن حجبها بالغربال. أمّا اجترار الشائعات والأماني السوداوية التي تتمنى للمغرب كل قبيح وتشوه كل جميل، فقد أضحى من قبيل النكت السمجة التي لا تُقنع أحدًا.

من الثابت أن التطوّر الهائل الذي عرفه مغرب محمد السادس يُزعج أطرافًا خارجية كانت تريد أن تجعل من المملكة حديقة خلفية لنفوذها الاستعماري، ناسيةً أن هناك اليوم في المغرب واقعًا جديدًا، من علاماته الاختراقات الدبلوماسية المتوالية التي حققها الملك، خاصةً في ملف الصحراء المغربية، بعد اعتراف قوى عظمى بمغربية الصحراء ودعمها لمخطط الحكم الذاتي، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا، فضلًا عن استضافة المملكة لكأس العالم 2030 مع إسبانيا والبرتغال، وهو ما جعل من المغرب موضع احترام وتقدير دوليين.

لم يُعر الملك محمد السادس يومًا اهتمامًا بما يُقال أو يُردَّد من شائعات وأخبار زائفة، يُعاد تدويرها والنفخ فيها بين الحين والآخر؛ إذ جعل فلسفة حكمه تقوم على العمل والمثابرة، دون الالتفات إلى اللغو وسقط الكلام.

ولعل درجة الإزعاج التي سبّبها المغرب لهؤلاء جعلتهم لا يتوقّفون عن الطعن في مقوّمات استقراره وسكينته. وقد لاحظنا، خلال الشهور الأخيرة، كيف جرى استهداف أجهزته الأمنية الداخلية والخارجية، تارةً بأدوات محلية تقودها شِلّة من العدميين المتشدّدين ذوي الولاءات لأجندات خارجية، وتارةً بأقلام أجنبية تنفث مقالات في صحف غربية تظن أن ما تنشره سيُحدِث أثرًا داخل المغرب.

ينسى هؤلاء أن المملكة لا تدّعي خلوّها من المشاكل الاجتماعية، كغيرها من البلدان، لكنها تعمل على تجاوز تلك المشاكل وأوجه النقص بتوسيع التنمية، ومواجهة الاختلالات، والقيام بالإصلاحات الضرورية.

فالملك، باعتباره سليل ملكية ضاربة في عمق اثني عشر قرنًا، يدرك تمامًا، منذ تولّيه عرش البلاد، أن أمام الدولة تحديات وطموحات يتعيّن مجابهتها بحكمة وحزم. وقد دأب على التنبيه إليها في خطاباته الرسمية، ولم ينتظر أن تثيرها صحيفة ما أو تذكّره بها، وآخرها ما جاء في خطاب عيد العرش يوم 30 يوليو/تموز الماضي، حين شدّد على ضرورة وضع حدّ لسير المغرب بسرعتين، أي القضاء على الفوارق الاجتماعية والمجالية.

إنّ تعامُل بعض الأوساط الأوروبية مع الملكية المغربية بمنطق التنقيص والابتزاز يُعَدّ دليلًا على جهلهم برمزيتها ودورها المحوري في الحفاظ على تماسك الأمة ووحدتها. فهم لم يستوعبوا بعد أنّ المغاربة على دين ملوكهم، وأنهم حريصون أشدّ الحرص على وطنهم في السراء والضراء.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.