الفكر الثوري أثبت على مدار التاريخ أنه لا يصلح لبناء دول ذات مستقبل مهما تعاظمت الجهود المبذولة. وتاريخ الفكر الثوري مليء بالنماذج الفاشلة لدول واتحاد دول وتكتل حلفاء قامت على فكر ثوري، كان نجاحها قويًا في بداية الثورة، ومع الصعود السريع القوي كان الانهيار أقوى وأسرع كالذي حدث للاتحاد السوفيتي المنهار.
وهنا لا بد من التعريج على تعريف تاريخ الفكر الثوري، وهو دراسة الأفكار والمفاهيم المتعلقة بالتغيير الجذري للمجتمع والسياسة، والتي غالبًا ما تتضمن الثورات، حيث يشمل هذا التاريخ المفكرين الثوريين ونظرياتهم، والأحداث التاريخية التي ألهمتها أو أنتجتها.
والثورة والفكر الثوري هما مصطلحان مترابطان، حيث يشير الأول إلى التغيير الجذري والسريع في النظام القائم، سواء أكان سياسيًا أو اجتماعيًا أو اقتصاديًا، بينما يشير الثاني إلى مجموعة الأفكار والمبادئ التي تدعم هذا التغيير وتسعى لتحقيقه.
والثورة حركة شعبية أو جماعية تهدف إلى إحداث تغيير شامل في هيكل السلطة أو المجتمع، قد تكون عنيفة أو سلمية، وقد تشمل تغييرات في القوانين والأنظمة والتقاليد.
وتُعتبر الثورة في كثير من الأحيان نتيجة لعدم الرضا عن الوضع الراهن، والاستبداد، والظلم الاجتماعي والاقتصادي، ويمكن أن تكون الثورة بمثابة رد فعل على الاحتلال الأجنبي أو الاستعمار.
ويستلهم الفكر الثوري من أيديولوجيات مختلفة، ومن أشهرها الاشتراكية (الثورة الفرنسية)، والشيوعية (الثورة البلشفية وما تبعها مثل الثورة الكوبية وثورة تشي غيفارا)، والدينية (الثورة الخمينية)، والقومية (ثورة الأكراد).
ويُعتبر الفكر الثوري أحيانًا مرشدًا للثورة، حيث يحدد الأهداف ويضع الخطط لتغيير الواقع، وقد يتبنى الفكر الثوري أساليب عنيفة أو سلمية لتحقيق أهدافه، ونلخصه بأنه هو المحرك الفكري للثورة حيث يحدد الأهداف والوسائل والغايات.
والثورة بشكل مبسط هي التطبيق العملي للفكر الثوري، حيث يتم ترجمة الأفكار إلى أفعال على أرض الواقع، وتتأثر الثورة بالفكر الثوري ويؤثر كذلك على مسارها.
أمثلة على الثورات والفكر الثوري:
1- الثورة الفرنسية: كانت حركة شعبية تهدف إلى إسقاط النظام الملكي وتحقيق مبادئ الحرية والإخاء والمساواة.
2- الثورة البلشفية: حركة شيوعية أدت إلى قيام الاتحاد السوفيتي.
3- الثورة الخمينية: وهي حركة دينية متطرفة قادها روح الله الخميني لقلب نظام الشاه، استغلالًا لردة فعل الشعب الإيراني على الظلم الاجتماعي ونقائص نظام حكم الشاه السابق محمد رضا بهلوي.
وسُمّيت هذه الثورة بالثورة الإسلامية الإيرانية، وما زالت أسبابها موضع جدل تاريخي، ويُعتقد أنها تنبع جزئيًا من حركة رجعية محافظة تعارض جهود الشاه المدعوم من العالم الغربي في التغريب والتحديث والعلمنة، وتحمل لواء التشيع الاثني عشري.
وعلى مدار أربعة عقود، كانت هذه الثورة تتطلع للوصول لدول الجوار عبر تصدير الثورة واستغلال الأقليات الشيعية في عدد من الدول، وبالذات الدول العربية مثل لبنان والعراق واليمن والبحرين، ولم تسلم منها حتى المملكة العربية السعودية، ودعمت نظام الأسد العلوي في سوريا.
وكانت مبادئ هذه الثورة تستند على عدة مبادئ أساسية بمفاهيم معينة بناء على الفكر الشيعي، أبرزها: إقامة نظام حكم إسلامي شيعي قائم على ولاية الفقيه، والعدالة الاجتماعية، ومكافحة الاستبداد والفساد، وتحقيق الاستقلال والحرية، وتصدير مبادئ الثورة إلى الخارج، والوقوف في وجه الهيمنة الأجنبية.
وانتهجت هذه الثورة نهجًا أيديولوجيًا ذا تركيبة معقدة من القومية الأذرية والفارسية، والشعبوية السياسية، والمذهب الشيعي الرافضي المبني على مغالطات في العقيدة والتاريخ الإسلامي، والوهم، والبدع، والخرافات، والكهنوت.
لم تؤثر الحركات الشيعية على إيران ذات الأغلبية السنية والفقه الشافعي إلا بسبب الهيمنة الصفوية التي استعانت بالشيعي الحر العاملي، فحوّلت سكان إيران من كافة الطوائف والقوميات إلى التشيّع الصفوي بمواصفات جديدة، حيث اتخذت المدن المقدسة كقم ومشهد مراكز دينية، وجددت المسيرات للعتبات المقدسة والمزارات في العراق كالنجف وكربلاء، وتسللت شمالًا حتى سوق اليهود بسامراء، وأقامت ضريح الإمامين العسكريين، وانتشرت الحسينيات والممارسات والطقوس الشعائرية الجماهيرية التي لا تمت للإسلام بصلة.
جاءت الثورة الخمينية بعد ذلك لتجدد هذا الموروث وتبني جمهورية ثورية شيعية بمواصفات خاصة، أصبح المرشد الأعلى (الولي الفقيه) والمعممون فيها هم رؤوس النظام الحاكم، وشُكِّل لأجل ذلك حرس خاص يسمى بالحرس الثوري (الباسدران)، وهو القوة الرئيسية في الدفاع عن الثورة والمرشد الأعلى والجمهورية، والمحافظة على السيادة، وحفظ الأمن الوطني والثروات الوطنية، وهو القيادة العليا والمرجع الأساسي لبقية القوات المسلحة، ويتبعه قوات التعبئة الشعبية، وهي ميليشيات عقائدية تُسمى (الباسيج).
وبعد نجاح الثورة، كان هناك بوادر لتغيير بعض مبادئ الثورة لصالح نظام الحكم الفردي المستند لدعم العناصر المحيطة به، والدعم والإعجاب الشعبي بشخصية الإمام الخميني وسط هالة من القدسية بأنه خليفة المهدي المنتظر والحاكم باسمه تحت مسمى (الولي الفقيه)، فبدأت الثورة تأكل أبناءها كما قال الفرنسي الثائر جورج جاك دانتون، حتى تفرد الإمام الخميني كمرشد أعلى وولي فقيه بالسلطة والصلاحيات الحساسة بلا منازع، حتى وإن كان هناك رئاسة منتخبة وعدد من المجالس كمجلس صيانة الدستور، ومجلس الشورى، ومجلس خبراء القيادة، ومجلس تشخيص مصلحة النظام.
وبعد استقرار الأوضاع الداخلية، انتهجت إيران الفكر الثوري في إدارة الدولة من الداخل وتصعيد الصراع مع المحيط، فحدثت الحرب العراقية - الإيرانية، التي خلّفت آثارًا مدمرة على إيران والعراق والعرب، وتسببت بخسائر بشرية بالملايين، واقتصادية كبيرة بالمليارات، بالإضافة إلى تأثيرات اجتماعية ونفسية عميقة.
وشهد الاقتصاد الإيراني بين عامي 1961 و1976، أي قبل الثورة بعامين، نموًا اقتصاديًا بلغ متوسطه 11 بالمئة، وهي فترة تُعد من أنجح مراحل الاقتصاد الإيراني، ثم تلتها مرحلة الحرب وكان النمو فيها سلبيًا، وفي فترة ما بعد الحرب بين عامي 1989 و2009 بلغ متوسط النمو نحو 5 بالمئة.
وجاءت المرحلة الثالثة، التي بدأت مع العقوبات النووية الأميركية في عام 2011، وتبعها لاحقًا فرض عقوبات من الأمم المتحدة، فشهدت إيران تراجعًا حادًا في النمو، إذ انخفض متوسطه إلى نحو 1.1 بالمئة، وهذه العقوبات أثرت بشكل عميق على بنية الاقتصاد الإيراني وأدت إلى شلّ حركته.
والبيئة الاقتصادية المبنية على مبادئ الثورة لا تدعم الإنتاج أو الاكتفاء الذاتي بسبب البيروقراطية المعطِّلة، والإدارة غير الفعالة، وغياب الاستقرار الإداري، بالرغم من الرغبة في ذلك.
وظهرت شعارات مثل "الاقتصاد المقاوم"، ولكن لم تُترجم تلك الشعارات إلى سياسات فعلية بناءً على رؤية شاملة ذات منظور بعيد المدى.
وذهبت جل رؤوس الأموال الإيرانية لصالح المجهود الثوري وتصديره وعسكرته، فأنفقت المليارات في التصنيع الحربي بصبغة إيرانية خالصة، اعتمادًا على التسليح الصاروخي والمسيرات، والسعي لإنتاج السلاح النووي، والتعبئة الشعبية الداخلية، وتجنيد الميليشيات في الخارج، والدخول في سباق محموم للتسلح في المنطقة.
وكان البرنامج النووي الإيراني والسعي لتخصيب اليورانيوم والحصول على القنبلة النووية أحد أسباب التعثر التنموي الإيراني، حيث تعرضت إيران لعقوبات اقتصادية غربية خانقة، مما سبب في تأثر إيران سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.
وشملت مشاريع تصدير الثورة كذلك الإنفاق على الغزو الثقافي ونشر التشيّع، وكان هذا الإنفاق سببًا من أسباب تضخم فاتورة الإنفاق الإيرانية وتراجع التنمية داخليًا، ومع أنه لا يوجد تقرير رسمي أو ميزانية مخصصة لهذا الغرض، لكن يمكن القول بأن إيران أنفقت المليارات خارجيًا على التشيع من خلال عدة طرق:
دعم المؤسسات الدينية الشيعية، ونشر التشيّع، ودعم الجماعات الشيعية المسلحة، والإنفاق على المشاريع التنموية في المناطق الشيعية، ودعم المرجعيات الدينية الشيعية، وتُتّهم إيران بتسييس التشيّع واستخدامه لتحقيق أهدافها السياسية.
وأنفقت إيران المليارات للمحافظة على أنظمة مؤيدة لها أو تابعة لها ضد الثورات المضادة، كدعم حكومة بشار الأسد ضد ثورة الشعب السوري، أو لتقوية أحزاب في الخارج كحزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، وتمويل مجهوداتهم الحربية والإمدادية، ودعم الميليشيات العراقية - الإيرانية الحاكمة في العراق بعد أن قدمت لهم الولايات المتحدة العراق على طبق من ذهب.
كل ما سبق ذكره تسبب في استنزاف الخزينة الإيرانية، وكان له تأثير وأثر سلبيان كبيران على التنمية في الداخل الإيراني، والناتج القومي الإجمالي، وتراجع دخل الفرد الإيراني، والتضخم، وضعف أداء الاقتصاد ومؤشراته، وتراجع عائدات النفط والغاز بسبب العقوبات، والسياحة بسبب توتر العلاقات الخارجية وتعثرها بسبب دواعي أمنية وتخوف السياح من دخول إيران، مع أن إيران تمتلك مقومات هائلة للسياحة، وتراجعت الزراعة بسبب عدم إمكانية تصدير المحاصيل للأسواق العالمية، مع أن بعض المحاصيل الإيرانية ذات جدوى تنافسية عالمية، وكذلك الصناعة ومنتجاتها، وتراجع الاستثمار الخارجي في إيران، وتعطلت النشاطات الثقافية والرياضية والترفيهية المربحة بسبب الإيديولوجيا وغلبة الفكر الثوري على الفكر الاستثماري.
وسعت إيران لامتلاك السلاح النووي للمحافظة على بقائها، فكان هذا البرنامج هو السبب في ما يحدث لها حاليًا من استهداف إسرائيلي مدمر، وشاركتها الولايات المتحدة أميركا في مراحل لاحقة.
وعكسًا لمقولة أبو نواس الشهيرة:
دَع عَنكَ لَومي فَإِنَّ اللَومَ إِغراءُ
وَداوِني بِالَّتي كانَت هِيَ الداءُ
كان الدواء سبباً في الدمار وكانت تنمية الثورة وبالاً على إيران وطريقاً إلى الهاوية فهل نرى نهاية قريبة للثورة الإسلامية الإيرانية بسبب منهجيتها الخاطئة وإصرارها على تصدير ما يعكر إجواء حسن الجوار ومحاولتها الحصول على ما يعتبره أعداء إيران تهديداً وجودياً لهم وهذا ما صرح به الساسة في أمريكا وإسرائيل.
وهنا نستخلص درساً استراتيجياً في أهمية إدارة الصراع بذكاء استراتيجي لم تتمتع به قيادة الثورة الإسلامية الشيعية في إيران.