: آخر تحديث

واشنطن والقاهرة بعد قمة بغداد: رسائل متبادلة ومواقف تحت المجهر

3
3
3

استقبل الرئيس عبد الفتاح السيسي حديثاً مسعد بولس، كبير مستشاري الرئيس الأميركي للشؤون العربية والشرق أوسطية والشؤون الأفريقية، وذلك بحضور بدر عبد العاطي، وزير الخارجية والهجرة وشؤون المصريين في الخارج، وحسن رشاد، رئيس المخابرات العامة، ومن الجانب الأميركي السفيرة هيرو مصطفى، سفيرة الولايات المتحدة في القاهرة، وجوشوا هاريس، نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون شمال أفريقيا.

ما استوقفني بشدة في زيارة بولس هو عدم تطرقه إلى ملف غزة بكلمة واحدة؛ إذ كتب بعد وصوله إلى القاهرة على حسابه الرسمي في "إكس" (تويتر سابقاً): "توجهت إلى القاهرة للقاء الرئيس السيسي، ووزير الخارجية عبد العاطي، ومدير المخابرات المصرية رشاد، ومسؤولين آخرين. أتطلع بشوق إلى تبادل وجهات النظر حول مصالحنا المشتركة في أفريقيا مستقرة ومزدهرة".

ثم كتب بعد لقائه بالرئيس المصري: "كان نقاشاً ممتازاً مع الرئيس السيسي. وقد أسعدني للغاية الاستماع إلى وجهة نظره بشأن التحديات والفرص الحاسمة في أفريقيا. وأكدنا أهمية الشراكة الأميركية المصرية التي تشمل تعزيز السلام والأمن والاستقرار الإقليمي".

وأخيراً، بعد لقائه وزير الخارجية المصري كتب: "انتهى للتو اجتماع مثمر للغاية مع وزير الخارجية المصري عبد العاطي. ومن بين المواضيع التي ناقشناها ضرورة إنهاء العنف الأخير في ليبيا. كما اتفقنا على أهمية إنهاء الصراع في السودان".

فأين الملف الأهم، وهو غزة، من تصريحاته؟ وأين الحديث عنه، ولو بكلمات بروتوكولية عابرة؟

الإشارة الوحيدة إلى غزة جاءت من الجانب المصري، حيث أوضح السفير محمد الشناوي، المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية، في منشور على الموقع الرسمي للرئاسة والصفحات الرسمية، أنَّ اللقاء تناول مستجدات الأوضاع في الشرق الأوسط وسبل استعادة الاستقرار الإقليمي. وقد شدّد الرئيس السيسي على ضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار في غزة، وإنفاذ المساعدات الإنسانية، مؤكداً أهمية استمرار التنسيق الثلاثي بين مصر، والولايات المتحدة، وقطر. من جانبه، أكّد مسعد بولس التزام بلاده باستمرار الجهود المشتركة مع مصر لاستعادة الهدوء الإقليمي. وتطرّق الطرفان أيضاً إلى الأوضاع في ليبيا، ولبنان، والسودان، واليمن، بالإضافة إلى ملف القرن الأفريقي ومنطقة الساحل، حيث تم التأكيد على أهمية الحفاظ على الاستقرار، وتعزيز دور الحكومات ومؤسسات الدولة، بما يحقق مصالح شعوب هذه الدول. إلى هنا انتهى نص منشور الشناوي.

شملت زيارة بولس أيضاً جولة في المتحف المصري الكبير، في إشارة دبلوماسية إلى الاهتمام الأميركي بالبعد الثقافي.

تأتي زيارة بولس بعد يوم واحد فقط من كلمة السيسي في القمة العربية الـ34 التي استضافتها بغداد في 17 أيار (مايو)، وكانت الأقل تمثيلاً قيادياً في تاريخ القمم العربية، ما يعكس هشاشة الموقف العربي وانقسام أولوياته. وبالرغم من ذلك، قرر عبد الفتاح السيسي المشاركة، مستغلاً المنبر العربي لتوجيه رسالة شديدة اللهجة إلى إسرائيل وآخرين.

بلغت كلمته عشر دقائق، الجزء الأكبر منها هاجم فيه إسرائيل بلغة بدت مستنسخة من مذيعي قناة "الجزيرة"، دون أن يوجه أي إدانة أو حتى إشارة إلى المجزرة الإرهابية التي نفذتها ميليشيا حماس في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023.

فكيف يمكن المطالبة بسلام شامل دون التطرق إلى أحد أبرز عوامل زعزعة الاستقرار، أي تنظيم حماس الذي ينتهج المعادلات صفرية النتائج وسيظل؟

السيسي ذهب إلى حد التلويح بانعدام الاستقرار الإقليمي، حين صرّح بأن "حتى لو نجحت إسرائيل في إبرام اتفاقات تطبيع مع كافة الدول العربية، فلن يتحقق السلام في الشرق الأوسط"، مستدعياً الورقة الفلسطينية، وكأن حماس غير موجودة، وكأن إسرائيل شنّت عدواناً بلا سبب، وكأن دماء من ذُبحوا في 7 تشرين الأول (أكتوبر) لم تُسفك أصلاً.

من الواضح أن النظام المصري لا يريد نهاية حماس، بل يعمل على إبقائها طرفاً فاعلاً في المشهد، ما دامت توفر له ورقة ضغط إقليمية تؤمّن له حضوراً دولياً مستداماً ومكاسب مالية.

كلمة الرئيس السيسي في القمة العربية لاقت احتفاءً شعبياً من المصريين بالداخل والخارج، حيث باتت حتى الأصوات المعارضة المنفية تحتفي بها، وكأنها تمثل تحولاً في موقف القاهرة من القضية الفلسطينية. كتب أحد المعارضين الشرسين للسيسي، والمقيم في الخارج، بالرغم من الأحكام الجائرة الصادرة بحقه: "بالرغم من عدائي للسيسي ومشاركته في الحصار، إلا أن كلمته عن فلسطين كانت محترمة. مصر تقول لا، والباقي شوية عبيد"، في إشارة إلى بقية الدول العربية.

هذا التناقض الكاشف يعبر عن حالة رضا شعبي واسعة، حيث يُستقبل أي خطاب يحتوي على "لاءات" بالترحاب.

ولمزيد من الإيضاح وتوسيع زاوية المشهد، شهدت القاهرة قبل يومين من القمة العربية تظاهرة أمام نقابة الصحفيين تحت شعار: "النكبة مستمرة والمقاومة أيضاً"، وقد تمّت بتنسيق أمني واضح. ففي بلدي، مصر، وحتى نرى جميعاً الفراشات في الحدائق العامة، لا بدّ أن نعلم أنها حصلت على إذن من الأجهزة الأمنية. في هذه التظاهرة، رُدّدت شعارات تتّهم السعودية والإمارات بالخيانة والتآمر مع إسرائيل لإبادة الفلسطينيين، بالرغم من أنهما يمثّلان أبرز داعمي الاقتصاد المصري المتهاوي منذ عام 2013، وترافق ذلك مع هجوم ضارٍ عليهما من بعض الأقلام المحسوبة على النظام ولا تكتب إلا ما يروق للدوائر المصرية.

ويؤكد ذلك أن استثمار النظام المصري في كراهية إسرائيل والتحريض عليها ليلاً ونهاراً قد أثمر نتائج غير متوقعة لصالحه.

الخلاصة: واشنطن غير راضية عن نبرة خطاب مصر منذ تولي ترامب، ولا ترغب في أن تتقمّص القاهرة خطاب "الجزيرة" وتخسرها كحليف. ولأجل ذلك، أوفدت إليها مسعد بولس. فهل ينجح في إقناع القاهرة بتغيير النهج في قادم الأيام؟ أم يواصل النظام المصري السير في الاتجاه المعاكس، حتى نهايته التي نعلم، من تجارب دول سابقة، أنها كارثية لم تجنِ منها الشعوب سوى الخراب، والدمار، وتفتيت الأوطان؟


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.