: آخر تحديث

حَفر بوتين الحُفرة فوَقع فيها

14
14
11

الغدر صِفة مذمومة ومحتقرة لدى جميع الثقافات والشعوب، لأن فيها أذى للآخرين، وغالباً ما يرتد على صاحبه، فالمكر السيء يحيق بأهله! ومن يحاول أن يؤذي الآخرين، يعود أذاه عليه إما بنفس الشكل أو أشد. وهذا ما حدث بالفعل مع حاكم الكرملين المختل، الذي حَفَر لجيرانه وغدَر بهم وغزاهم وشردهم وهدم مدنهم على رؤوسهم، ولم يفعلها مع جار واحد ويتعض ويعود الى رشده، بل كرّرها مع العديد من جيرانه. كما حَفَر لحلفاءه وشركاءه الأوروبيين وغدر بهم، والذين إرتبطوا معه بإتفاقيات، إنقلب عليها بخبث، مرة بإدعاء الأعطال، ومرة بطلب الدفع بالروبل، وثالثة بتخريب الأنابيب.

لقد حَفَر بوتين حُفرة ظناً منه أنه سيوقِع فيها الأوكران والأوروبيين، فإذا بها تبتلعه وتبتلع غروره وتمرغ أنفه في الوحل. فالغزو الذي أراده خاطفاً لأوكرانيا، تحول الى معركة إستنزاف وإنهاك طويلة الأمد لإقتصاده وجيشه. وعاد حبل الغاز الذي أراد أن يلفه حول رقبة الأوروبيين ليلتف حول رقبته، ولترتد النتائج الكارثية لإيقاف تصدير الغاز، التي أراد أن يراها عليهم، إليه وعليه وعلى إقتصاده، كما عاد دينار جحا المزيف اليه، بعد أن حاول أن يخدع ويبتز به الآخرين!

فبعد الإنتكاسات العسكرية في الحرب الأوكرانية، بات إقتصاد روسيا مهدداً، حالياً وعلى المدى البعيد، بفشل إقتصادي كبير، نتيجة للسياسات المجنونة والرعناء التي إنتهجها بوتين، الذي لم تعد الإخبار السيئة تأتيه فرادا، بل جماعة. فيوم بعد آخر تعلن كييف عن مكاسب على الأرض، من جانب إستعادة أراضيها المغتصبة. الى جانب ذلك يستمر الفرار الجماعي للروس هرباً من قرار التعبئة، مقروناً بتراجع الروح المعنوية القتالية للجنود في ساحات المعركة، وهو ما دفع بوتين الى اللجوء لقتل المدنيين عبر إمطار مدنهم بالصواريخ وضرب البنى التحتية. بالإضافة إلى ذلك، أرضية الكرملين لم تعد صلبة، بل باتت رخوة وبدأت تتصدع تحت أقدامه، فقبل فترة طالب العشرات من الساسة الروس المحليين بوتين علناً بالتنحي، بل وإتهمه بعضهم بالخيانة لإهانته للجيش الروسي. أخيراً وليس آخراً، يبدو أن محاولة إبتزاز أوروبا بإمدادات الغاز لخفض دعمها لأوكرانيا تفشل بشكل متزايد.

إن تأثير ضغط بوتين بورقة الغاز آخذ في الانخفاض، لأن الأسعار بدأت تتراجع، فقبل فترة صرح خبير الطاقة أندرياس لوتشيل من جامعة الرور في بوخوم لقناة ZDF الألمانية: "سأندهش إذا إرتفعت الأسعار من جديد كثيراً، لأنها آخذة في الإنخفاض، بعد أن بات واضحاً أن روسيا لا تقدم ما يلزم، فحالة عدم اليقين في السوق هي التي أدّت سابقاً إلى إرتفاع الأسعار". لكن الأمر لم يعد كذلك اليوم، بعد أن توضحت الأمور، وزالت حالة عدم اليقين التي أربَكت السوق، وساهمت بإرتفاع أسعاره. بالإضافة إلى ذلك، رَدّت أوروبا بالبحث عن مصادر جديدة للغاز، لتقليل الاعتماد على روسيا، وإنهاءه إن أمكن. على سبيل المثال، وقّعت رئيسة مفوضية الإتحاد الأوروبي أورسولا فون ديرلاين والرئيس الأذربيجاني علييف إتفاقاً في يوليو الماضي يتم بموجبه نقل ضعف كمية الغاز سنوياً عن السابق عبر ممر الغاز الجنوبي في غضون خمس سنوات. كما بدأت النرويج بتزويد أوروبا بالغاز بنحو ثمانية بالمئة أكثر مما كانت تفعل قبل إندلاع الحرب.

أوروبا تعمل بالفعل على توفير الغاز بنجاح وفق ثقافة تضامن مجتمعية لا تفهمها الكثير من الشعوب، التي تتشفى بها، وتطبل لجرائم بوتين، وتروج لإشاعاته. فوفقاً لمَسح أجرته مؤسسة هانز بوكلر، يتسبب إرتفاع الأسعار حالياً بقيام العديد من المنازل في ألمانيا بتوفير الطاقة. كل هذا الآن يقلل بشكل كبير من الضغط الذي كان بوتين يخطط لإستخدامه ضد أوروبا، كما أن مستويات الطاقة العالية في ألمانيا تبعث الأمل بقدرتها وقدرة شعبها على تجاوز الأزمة بنجاح، فالشعب الذي يحقق معجزة إعادة بناء بلاده عمرانياً وإقتصادياً خلال 4 سنوات، لن يصعب عليه تجاوز هذه الأزمة الطارئة. هذا الأمر طبعاً ليس بغريب على شعب كان يأكل وجبة بطاطا واحدة في اليوم ليعيد بناء بلده بعد أن دمرتها الحرب، ولم يفكر بنفسه وينشغل بالجري وراء المال والتكالب على الوظائف، وبناء بيوت مشوهة وشراء سيارات فارهة لا مكان لها في كراج بيته ولا تتحملها شوارع بلاده. وهو أمر لا يفهمه طبعاً مَن يسحب كهرباء من الشارع أو من جاره بشكل غير رسمي، وتتراكم أسلام الكهرباء فوق باب بيته كخيوط العنكبوت، ويشغل 6 أجهزة تبريد وثلاجتين و5 أضوية في غرفة لا يجلس فيها، لذا يجتر مقولة إعلام بوتين بأن أوروبا ستموت من البرد!

هنا يُطرَح سؤال مُهم: إذا كانت أوكرانيا قد صَمدت ضد غزو بوتين، بل حولته الى خسارة عسكرية له! وإذا كانت أوروبا قد صَمدت وتجاوزت ضغوطات بوتين بإستخدام ورقة الغاز، وحولتها الى خسارة إقتصادية له! فإلى متى يمكن لروسيا بوتين أن تصمُد؟ لأن قلة صادرات الغاز وتوقفها جعل فائض الميزانية الروسية يتضاءل، بل ويعاني عجزاً خلال الأشهر الأخيرة، في حين كان لدى روسيا فائض حتى يوليو الفائت بفضل أموال الغاز التي كانت تجلب لها مدخولاً لم تكن تحلم به. لذا لا يمكن لبوتين مواصلة قطع الغاز إلى ما لا نهاية، وقد يتوسل لإعادة ضخه الى أوروبا في المستقبل القريب، لكي يعوض الخسائر الفادحة التي سببها لإقتصاد بلاده نتيجة لرعونته وإجرامه. الى جانب ذلك بدأت العقوبات تؤثر بشكل موجع على عائدات الضريبة المضافة، التي تراجعت بسبب ضعف الإستيراد. بالإضافة الى تكاليف الحرب التي ينفقها بوتين مع واردات أقل، لذا من المشكوك فيه أن يلجأ الى إيقاف الغاز تماماً، كما يُلوِّح ويُمَعمِع بين الحين والآخر. فحينها سيدفع ومعه روسيا، وشعبها المبتلى بروعونته وجنونه، ثمناً باهظاً للغاية.

نفس الأمر سيحدث إذا فكر بوتين بإستخدام الأسلحة النووية، وهو الخطاب الذي يسوقه منذ أشهر، ويحقق أهدافه منه إعلامياً، رغم علمه بأنه لن يتمكن من إستخدامها فعلياً، لأنه وبلاده سيكون أكثر المتضررين منها، لكنه يستخدم الرعب المتولد من التلويح بإستخدامها لزعزعة ثقة شعوب أوروبا بحكوماتها، والضغط عليها وإجبارها على إيقاف دعمها لأوكرانيا، وقبلها طبعاً لإرعاب الشعب الأوكراني ودفعه الى الاستسلام له ولنزواته وأطماعه التوسعية. بالتالي أي حفرة سيحفرها بقتبلة نووية أوهيدروجينية في أوكرانيا، أو أية دولة أوروبية، سيكون ردّها حفرة بأضعاف حجمها تبتلعه وتبلتع بلاده وجيشه، وتنهي الحرب التي يسعى لإدامتها.

بوتين ليس إنتحارياً، وهو يعلم بأنه إذا تهور في موضوع النووي، فالكلفة ستكون كارثية، لأن حلف الناتو قد صرح بأنه سيُدمر حينها القوات الروسية ومعداتها في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، إضافة الى جميع قطع الأسطول البحري الروسي في البحر الأسود. ولإظهار جديته لبوتين أجرى الحلف مناورات عسكرية نووية في بلجيكا تحت مسمى عملية Steadfast Noon، لإختبار مدى جاهزية الدول الأعضاء لأي ضربة نووية محتملة، بمشاركة جيوش أربعة عشر دولة من الدول الأعضاء في الحلف. لكن بوتين على الأغلب هدد سابقاً بهذا السلاح عندما إجتاحت قواته أراضي أوكرانيا لمنع دول الناتو من توريد الأسلحة إليها، لكن هذه الدول لم تأبه، وبوتين لم ينفذ تهديده. أما إستخدامه لأسلحة تكتيكية نووية لضرب جنوب أوكرانيا، وهو المُرجح، سيجعله يحصل على أراض ملوثة إشعاعياً، ويقتل مدنيين يدعي بأنهم قد صوّتوا للإنضمام الى روسيا. كما أنه يدرك خطورة إستخدام أسلحة نووية ستراتيجية لضرب كييف، أو مدن غرب أوكرانيا، لأن ذلك سيُحدث صدمة كبرى في العالم قد تنادي بمعاقبته وضربه وتدمير روسيا.


[email protected]


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي