: آخر تحديث

ثورة السقوط

35
38
30
مواضيع ذات صلة

بحسب المتحمّسين لها، تكون الثورة عبارة عن قفزة إلى الأمام، ووثْبة إلى واقع جديد مُغاير للواقع القديم، مُوفرة للمجتمع حياة أفضل، ومُخلّصة إيّاه من شوائب وفساد وطغيان النظام الذي تمّت الإطاحة به.
غير أن التاريخ يُقدّم لنا صورة سوداء عن جلّ الثورات التي حدثت في مراحل مختلفة من التاريخ المعاصر مُفْضية إلى مجازر رهيبة، وعمليّات انتقام فظيعة، وإلى نزاعات وقلاقل خطيرة، وإلى أزمات اقتصادية واجتماعية خانقة. بل وغالبا ما تؤدي الثورات إلى قيام أنظمة أشدّ فسادا واستبدادا من الأنظمة التي أسقطتها.
وسوف أقتصر هنا على الحديث عن "الثورة التونسية" التي أطاحت بنظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي في الرابع عشر من شهر يناير/كانون الثاني2011. 
وقد سُميت هذه الثورة بـ"ثورة الكرامة والحرية" مرة، وب "ثورة الياسمين" مرة أخرى تيمنا بـ"ثورة القرنفل" البرتغالية في منتصف سبعينات القرن الماضي، إلاّ أنها لم تكن لا هذه ولا تلك إذ حالما ركب الرئيس بن علي الطائرة مُتوجها إلى المملكة العربية السعودية بدأت علامات السقوط، وتفكيك الدولة ومؤسساتها تبرز بوضوح.
أول هذه العلامات حملات "ارحل" التي قادها اليساريون في البداية ليستفيد منها في الأشهر القليلة التالية الإسلاميون ، ويوظفونها لصالحهم. وكانت نتيجة تلك الحملات طرد العديد من الكفاءات الكبيرة في جميع المجالات، والتي كانت تتمتع بخبرة واسعة في إدارة شؤون الدولة على جميع المستويات، الاقتصادية منها، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية، والتربوية، وغيرها. كما شملت تلك الحملات العنيفة والانتقامية وزارة الداخلية لتفرغها من كبار الشخصيات الأمنية العالمة بأسرار الدولة وخفاياها. ولم تُسْتثْنى وزارة الخارجية من شرّ تلك الحملات التي انتهت بعزل محمد الغنوشي، الوزير الأول في نظام بن علي، والذي أنقذ تونس خلال الفترة التي أمضاها في منصبه المذكور من أزمات اقتصادية واجتماعية خطيرة. وقد استغل الإسلاميون حملات "ارحل" حال انتصارهم في انتخابات خريف عام2011 باعتبار أنهم "يخافون الله" لتحقيق ما يسمونه بـ"التمكين"، أي السيطرة على أجهزة الدولة ومؤسساتها لتصبح خاضعة لهم خضوعا لهم خضوعا يكاد يكون كليا. والمعضلة التي نتجت عن ذلك هو أن الذين تمّ طردهم واعفاؤهم من مناصبهم عوضوا بالمتمتعين بالعفو التشريعي العام، وجلهم من منعدمي الخبرة في إدارة شؤون الدولة في جميع المجالات. ومنذ ذلك الحين بدأت تونس تفقد توازنها لتكون ضحية أزمات خطيرة ما تزال تتخبط فيها حتى هذه الساعة. وطني أن خلاصها منها سوف يكون بعيد المدى.
الأمر الثاني هو بعث مجلس تأسيسي جديد لكتابة دستور "الثورة". وكان هذا مطلب اليساريين أيضا. غير أن الإسلاميين هم الذين جنوا ثماره. وبذلك تم الغاء دستور الذي أعدته نخبة متنورة تكونت في أرقى الجامعات والمعاهد الفرنسية لينشغل الإسلاميون وبقية الأحزاب التي جاءت بها ثورة "الكرامة والحرية" بكتابة دستور جديد تطلب اعداده ثلاث سنوات. وقد جاء ذلك الدستور الذي اعتبره الإسلاميون "أفضل دستور في العالم" لأنه كان مُتطابقا مع نواياهم السيئة في فرض سلطتهم على الدولة ومؤسساتها، مليئا بالثقوب لينتج عن ذلك نظام هجين، لا هو بالبرلماني ولا بالرئاسي...وبسبب ذلك غرقت البلاد في الصراعات الأيديولوجية والعقائدية وغيرها، وأصيبت أجهزة الدولة ومؤسساتها بشلل رهيب جعل التونسيين يعيشون يوميا على وقع الخوف من الحاضر والمستقبل. 
الأمر الثالث هو أن الإسلاميين نجحوا منذ البداية في الانحراف بثورة "الكرامة والحرية" عن أهدافها الحقيقية، مُغرقين التونسيين في الجدل العقيم حول قضايا لا علاقة لها لا بواقعهم، ولا بالأهداف التي من أجلها قامت الثورة المذكورة، ومحاولين بشتى الطرق والوسائل "شيطنة" نظامي كل من بورقيبة وبن علي ليكونا هما المسؤولان عن "خراب البلاد والعباد". لكأن النظامين المذكورين لم يفعلا شيئا سوى افساد حياة التونسيين، وتدمير هويتهم، وتزوير تاريخهم ، والعبث بقيمهم والأخلاقية والدينية. وكل هذا، أسقط نسبة عالية من التونسيين في الفخ ، وجعلهم يتوهمون أنهم كانوا يعيشون منذ حصول بلاهم على استقلالها حقبة سوداء تتسم بالطغيان والاستبداد والفساد. وقد استغل الإسلاميون كل هذا ليزدادوا تمكنا من مؤسسات الدولة، مانحين انصارهم الذين كانوا مُورّطين في قضايا إجرامية وارهابية تعويضات ضخمة خوّلت لهم القفز بسرعة إلى طبقة المترفين ماديا. وتلك التعويضات أنهكت الخزانة المالية، لتكون البلاد على حافة الإفلاس راهنا. 
الأمر الرابع هو أن القانون الانتخابي الذي صاغه الإسلاميون على مقاسهم، سمح للفاسدين والمهربين ولمنعدمي الكفاءة وللمتنكرين للهوية الوطنية التونسية، وللمزورين للتاريخ، وللمشبوهين بأن يصبحوا نوابا في البرلمان. لذلك لم يكن غريبا أن ينشغل هؤلاء تحت قبة البرلمان بالصراعات الجانبية، وبتبادل الشتائم واللكمات والصاق التهم ببعضهم البعض، غافلين تماما عن الخوض في القضايا المتصلة بحياة التونسيين، وبواقعهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
الأمر الخامس هو أن الإسلاميين ومعهم اليساريون والقوميون وبقية الأحزاب الطفيليّة التي برزت في المشهد السياسي بعد انهيار نظام بن علي، روّجت لمفاهيم خاطئة عن الحرية والديمقراطية ليصبح لكل واحدة منهما معنى سلبي يقوم على الحثّ على الكسل والخمول، وعلى الإضرابات العشوائية وعرقلة العمل الإداري والاستهانة بالقوانين وبالأجهزة الأمنية والعسكرية، والحطّ من مهابة الدولة، واهمال البيئة لتصبح تونس من أقذر البلدان في العالم. وكل هذا كانت له تبعات خطيرة على المستوى الاقتصادي بالخصوص لتصبح تونس بلدا متسولا، يعيش على القروض، وعلى المساعدات بعد أن تقلص الإنتاج في جميع المجالات ، وبات العمل الجاد منبوذا ومحتقرا من قبل العديد من الفئات الاجتماعية.
كل هذا يبيح لنا أن نقول بإن "ثورة الكرامة والحرية" هي في الحقيقة "ثورة السقوط" إذ أنها نسفت كل الإنجازات التي تحققت للتونسيين في عهدي بورقيبة وبن علي، مُعيدة البلاد إلى الحقب السوداء في تاريخها، وزاجّة بها في نفق مظلم لا يدري أحد نهايته. ولمواساة أنفسهم في هذه الأيام الشهباء التي يعيشونها على وقع الأزمات التي يتخبطون فيها، يقوم التونسيون على صفحات ومنابر التواصل الاجتماعي، بنشر صور لمدنهم، ولجوانب من حياتهم في "الزمن الجميل" حيث كانت ترعاهم دولة مُهابة الجانب، ويحكمهم رجال قد يكونون قساة معهم، لكنهم كانوا يتحلون بخصال وطنية عالية، وكانوا يتمتعون بالخبرة وبالدراية في إدارة شؤون البلاد والعباد.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.