: آخر تحديث

حروب التشهير بالسم

47
36
35
مواضيع ذات صلة

مثلما الحروب تكشف أحداثها المأساوية بالجثث والموتى، وكوارث البشر والحجر، فأنها من جانب آخر، تفضح أسرار مخفيّة، وصراعات سريّة، وقصص عن ابتكار الاغتيال وقتل الخصوم. ومع رصاص الحرب الروسية الأوكرانية كانت هناك ألغاما تتفجّر للتشهير والتنكيل بين المتخاصمين. كل منهم ينشر قذارة الآخر، وأفكاره المطعمة بالموت، وسموم السيانيد والريسين والبوتولينيوم والسيانيد.

تاريخيا فأن الطبيب اليوناني "ديسقوريدوس" هو أول من حاول تصنيف النباتات حسب تأثيراتها السميّة والعلاجية. ومع ذلك يمتد تاريخ السم إلى ما هو ابعد من 4500 سنة قبل الميلاد، وقد استعمله البشر كسلاح أو مضاد للسموم أو علاج طبي. لكن استخدامه بشكل رئيسي كان في مجال الاغتيال، حيث استخدمه النبلاء والملوك والقادة للتخلص من المعارضين السياسيين أو غير المرغوب بهم من أصحاب الفكر والقلم والرأي.

منطق التاريخ يقول لنا لا تقتصر الحروب في عالم الصراعات السياسية باستخدام السلاح فقط للقيام بعمليات الاغتيال، التي تتم على مرأى ومسمع الجميع، بل هناك أساليب أخرى للتخلص من الخصوم تكون أكثر بشاعة وأقل رحمة، باستخدام سموم ومواد كيميائية، التي غالبا ما تستخدم ضد الجواسيس والعملاء للتخلص منهم، والتي قد لا تكتشف إلا بعد الاستخدام بأيام أو شهور وربما عقود. 

حرب الروس والأوكران ظاهرها صواريخ وطائرات وقنابل وقتلى وتهجير، لكن باطنها حروب نفسية سرية، وفضائح المخفي من المؤامرات والقذارات السياسية التي لا نرى فيها سوى التنكيل والموت والاغتيال، وصناعة الغاز والسم. لذلك ظهرت مقابل الحروب الميدانية حروب الخفايا والأسرار وفضائح الموت، ليس من باب كشف الحقائق، وإراحة الضمير بل لتشويه الآخر وشيطنته أمام الرأي العام.

وسائل الإعلام الغربية، وبطريقة مُمنهجّة، بدأت تعيد "حدوته" السم والاغتيالات للدب الروسي، وتضيف المزيد عليها من التوابل والمكملات القصصيّة المفبركة. فقد اعيدت قصة الجاسوس الروسي "سيرجي سكريبال" وأبنته "لوليا" وتسممهما بغاز" نوفيتشوك" السام الذي تم تطويره في روسيا، حيث تم توجيه الاتهام لموسكو بأنها وراء محاولة الاغتيال. كما أعادت قصة نهاية المعارض الروسي "أليكساندر ليتفينينكو"، الذي دُس له "البولونيوم" عالي الإشعاع في الشاي حيث كانت أصابع الاتهام تشير إلى تورط المخابرات الروسية، خاصة بعد نشره كتاب «تفجير روسيا: الإرهاب من الداخل»، والذي كشف من خلاله قيام المخابرات الروسية بعمليات تفجير في روسيا لتحريض الشعب على الحرب ضد الأقليات المسلمة عبر إلصاق التهم بالمتمردين الشيشان.

كما تم أعادت قصة رجل الأعمال الروسي "أليكساندر بيريبيليشنى" الذي مات بمادة " الجلسيميوم" المستخرج من زهرة الياسمين السامة من قبل المخابرات الروسية، خاصة عقب تقديمه وثائق للمحققين السويسريين في قضية تزوير كبيرة في صندوق استثمار متورطة بها السلطات الروسية.

والقصص لا تنتهي؛ حروب سيبرانية طاحنة عبر الإنترنت صوتها غير مسموع، وفيروسات مطعمة بالسموم الإلكترونية لاستهداف البنى التحتيّة لقتل المعلومات والبيانات، ومفرقعات صوتيّة مغشوشة بسلاح الخداع والتمويه وخلط الأوراق، وقصص مَموجة بالتكرار، وواضحة الهدف من تسويقها أيام الحرب. لكن عقل القارئ مملوء بتراكمات قصص صناعة السم ومختبراتها الدولية. ويعرف جيدا أن معظم الدول متورطة في حفر قبور البشر بالسم اللعين، ولديها خرائط معرفّية لأفعال الجواسيس مع أقداح الشاي الأسود والأخضر ووجبات الطعام!

مثلما الحرب قَذرة في تفاصيلها ونتائجها، فأن الاغتيالات للبشر، وبالذات قتل الروح البشرية بالسم، وتعذيب الجسد حسيّاً وعصبياً، وتمزيق الخلايا والصفائح الدموية فأنها أشد الحروب قذارة ونجاسة في التاريخ، وهي أهون من زوال الدنيا عند الله. 

ما تنشره وسائل الإعلام اليوم، تزامنا ًمع أحداث الحرب وفضائحها وهمجيتها في كشف الغسيل القذر للدول الكبرى وممارساتها القبيحة المعطرة بدم الأبرياء تعكس لنا قيّمها المنحطة، وتوحشها في إدارة العالم. فليس أمام البشر اليوم إلا التكاتف أمام تحديات صناعة الحرب والتوحش، والإيمان بأن "الناس للناس" كما يقول الشافعي. وليس هناك أسوأ من تمني الشر والموت والحرب للآخرين، والشماتة بمصائبهم وأحوالهم العسيرة. وقد قيل أيضا من باب حقوق العباد: إن الظُلم ظُلمات؛ والله يُمهِل ولا يُهمِل. 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في