عدا بضع تجاعيد توهّطت وجه الرجل، لم يتغير شيء في زميل دراسة قاسمته رحلة الثانوية قبل أكثر من أربعين عاما . الرجلما زال يرسل ضحكته المجلجلة التي لو سمعها صويحبكم في أدغال إفريقيا لعلمت أنه قد حل فيها، كذلك ظل كعهده متحمسا لعلمانيته، يدللها ويصطفيها، ولا يساوم في قناعته بضرورة فصل كل أمور السياسة والحكم وإدارة شؤون الدولة عن التأصيل الديني .
الناس تتغير، والأجساد تكبر وتشيخ، لكن ما رسخ في الوجدان والعقل يظل مغروسا بأوردة الجسم وخلاياه، ألا ترونقيس بين الملوّح يقول في محبوبته بعد سنوات طويلة من أيام يفاعتها : (لم تزل ليلى بعيني طفلة .. لم تزد عن أمس إلا أصبعا) ؟!
والأنماط الفكرية في الناس أيضا تتغير في تفاصيلها، لكنها في خطها العام لا تترنّح، فأهل الإسلام السياسي يظلون ينادون بما يعتقدون أنه الأصلح لمجتمعاتهم، صحيح أن أجيالا جديدة منهم قد تتمرد على ثوابت من سبقوهم، كانتهاج المرونة في التعاطي مع الآخر، والاقتراب أكثر من مناهج الإصلاح والوسطية ليتواءم المنهج الديني مع مستجدات الحياة ومعطياتها .. لكن كل أجيالهم تظل على رؤية شبه ثابتة حول الحكم والتشريع والمرجعية الدينية الصارمة .
الأمر ينسحب أيضا على أصحاب الفكر الشيوعي ومن دار في مجرّاتهم من أهل اليسار والتقدميين، فها نحن نراهم وقد جالوا في نقد الذات بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وانقسموا تيارات تصب كلها في انتقاد التجربة، لكنهم ظلوا متمسكين بأصل النظرية، دون إنكار بأن التطبيق شابته الشوائب ولم يستوعب مقتضيات الحياة الحديثة .
وبالطبع الحالة تشمل كل التيارات المصطرعة في عالم اليوم، من متشددين يمينيين ووسطيين ويساريين راديكاليين وكل القابعين في المناطق الرمادية بين هذه الأطياف السياسية والفكرية والأيدلوجية .
بالأمس استرجعت بعض أحداث التاريخ الإسلامي، وبعض تفاصيل الصراع على النفوذ في المنطقة والعالم المحيط سواء في الشرق الأوسط العربي أو في مناطق الجوار الإسلامي، فوجدت أشباح الماضي ما زالت تقض المضاجع، وثأرات الأمس ما زالت تتأجج في النفوس، واكتشفت أن المصالح لم تعد تنحصر كما نظن في ما يدر المال والمنفعة، بل دخلها النبش في جراحات التاريخ، وردّ الصاع صاعين لأحفاد (أعداءالأمس)، والسعي لجني الفوائد من معطيات الواقع، مع عدم تفويت الفرصة للكيد للآخر كلما كان هناك فرصة لذلك !
إنه الوحش الخطير الذي ينشب أظفاره في تفكيرنا، فلسنا على أي حال ملائكة منزهين عن الأهواء والعواطف والأمزجة، ولذلك نبقى أسيرين للتاريخ الذي يحاصر مناهجنا الدراسية، ويقوم بتفريخ أجيال متجددة من حملة الضغائن والجراحات القديمة والتنافس والتخطئة والتبرئة حسبما يقتضيه المنهج .
وفي الواقع، أحس أننا جميعا فريسة لمناهج التاريخ ومحطاته، وبدلا من أن نحيل الماضي لخبرة تبعدنا عما ولغنا فيه من آثام، نتسارع لجعله خطوة لرسم معالم جديدة من معالم الصراع، انتصارا للجدود ظالمين أو مظلومين .
تبهرني التجربة الأوروبية، فهؤلاء الأقوام على ما عاشوه من صراعات دامية، وما رسخ في نفوسهم من كراهية تجاه بعضهم البعض، أحالوا عتمة التاريخ إلى ضياء ساطع .. يبعدهم عن تكرار عثرات الأمس الدامعة، فإذا بالمصالح الحقيقية تفرض كلمتها، وإذا بالتعاون والتكامل والتنسيق يصب بخيراته على كل أوروبا.
أولئك القوم تجاوزوا الخط العام بنمطيته في التفكير، وحققوا نقلة في تحويل الصراع لقوة إيجابية تخلق المنافع، وتحتفظ بما في النفوس بعيدا عن القواسم المشتركة في الحلم بحياة أفضل .
قطعا لن يهيم البريطاني حبا بالفرنسي، لكنه مستعد للتعاون معه من أجل أن يعيشا سويا في رفاهية، ليبقى الشعور الداخلي بعيدا عن نطاق الفعل، ودون أدنى أثر في تفاصيل الحياة الكريمة لكل الأطراف .
الخروج من أسر التاريخ، أو ـ لنقل ـ تحويل آلام التاريخ لقوة دافعة، يتطلب إزاحة هذا العبء على الأقل من مناهجنا الدراسية، فنحن لا نريد لأجيالنا القادمة أن تتلوث بما تلوثنا به من ضغائن وثأرات لسنا طرفا فيها، وإن كانت ثمة مشاعر داخلية لا نستطيع محوها كما تفعل (الاستيكة) .. فبإمكاننا تنحيتها جانبا بحثا عن قوة خفية للتفاعل قادرة على انتاج منافع حقيقية للجميع .
نسيت القول إن زميلي بتجاعيده وضحكته المجلجلة، باغتنييوم لقيته بسؤال حول أهواء الشباب، وحبيبات الأمس الأخضر، فوجدتني أكتشف أنني ـ كقومي ـ ما زلت على الخط العام، سائرا على درب ابن الملوّح .. فلما تزل كل واحدة منهن في عيني وردة صغيرة يانعة، تدغدغ القلب بذكراها المضيئة، دون أن تزيد عن الأمس البهي إلا أصبعا .. أو أقل قليلا.