خالد بن حمد المالك
يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكي تمر بمرحلة متسارعة في تغيير أبجديات السياسة التي قامت عليها، وعززتها بلغة الحوار، والديمقراطية، والاحتكام لصوت الشعب، من خلال صناديق الانتخابات، والعمل المؤسسي في إدارة شؤون البلاد، بعد أن عانت أمريكا خلال العقود القليلة الماضية من الضغط العالي على مُسلّمات السياسة الأمريكية، وتشهد الآن بما هو أكثر، وبما يقوِّض هذه السياسة، أو يؤثِّر عليها سلباً، بعد أن تباعدت وجهات النظر بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، بما يسمح بارتفاع سقف الصراع وانفجاره بأكثر مما هو عليه الآن.
* *
فقد جاءت نتائج انتخابات ولايتي فيرجينا ونيوجيرسي، وخسارة الجمهوريين لها بفوز الديمقراطيين فوزاً مدوياً، واختيار عمدة لمدينة نيويورك -تحديداً- لتضع الأمريكيين وخاصة الجمهوريين على صفيح ساخن لم يألفوه، وإلى انفجار خلط الأوراق، وزاد من المسافة المتباعدة في الرؤية بين الحزبين، وصعوبة في لملمة وتطويق الخلاقات، بعد أن بلغت هذا المستوى من التراشق الإعلامي، وتبني مواقف متباينة لا تصب في وحدة الرأي بين الحزبين بما تظهره وتكشف عنه المناكفات فيما بينهم.
* *
نجح زهران ممداني (34 عاماً) في الفوز بمنصب عمدة نيويورك كأول مسلم يُختار لهذا المنصب في أكبر المدن الأمريكية (8 ملايين نسمة)، وقد اتهمه الرئيس ترمب بأنه شيوعي، واشتراكي، وأن الولايات المتحدة فقدت بفوزه شيئاً من سيادتها، ولم يكن فوزه الوحيد ضمن التحديات والصراعات التي تمر بها أمريكا، فقد فازت الديمقراطية ميكي شيريل بمنصب حاكم ولاية نيوجيرسي، كما فازت الديمقراطية أبيغيل سبانيرغر حاكمة لولاية فيرجينا على حساب مرشحي الحزب الجمهوري، وهو ما دفع الرئيس الأمريكي إلى التشكيك بنزاهة الانتخابات، وأن هناك تزويراً واسع النطاق.
* *
وبمعزل عن السياسة وتعقيداتها، والدين والمذهب وتوظيفهما في فوز زهران ممداني، فإن من أسباب هذا الفوز لأصغر عمدة لنيويورك منذ قرن من الزمان، ولكل من ميكي شيريل وأبيغيل سبانيرغر في ولايتين رئيسيتين ما يراه ترمب بأنه الإغلاق الحكومي الذي كان عاملاً أساسياً في نتائج الانتخابات، لكن تحذيراته قبل بدء التصويت لعمدة نيويورك، وتهديده بضغط الدعم الحكومي لها إذا ما فاز زهران ممداني، ثم قوله بعد فوزه بأنه سوف يكون هناك معالجة للأمر، وتلويحه بأنه قد يحاول اعتقاله، وترحيله إلى موطنه في أوغندا، حيث ولد وعاش طفولته هناك، توحي بأن الانقسامات بين الحزبين تأخذ مساراً خطيراً في وحدة الولايات المتحدة الأمريكية.
* *
ولأن أمريكا تمر بمرحلة شلل بسبب الإغلاق الحكومي، وهو أطول إغلاق في تاريخ أمريكا، وهو أيضاً واحد من التحزب في أمريكا لتعطيل اندفاع الرئيس ترمب في التغيير والتجديد، وكأنه بسياسته الحاكم بأمره للبلاد، دون أن تشاركه المؤسسات، كما هي قاعدة الحكم في أمريكا، ما يعزِّز القول بأن أمريكا في رئاسة ترمب الثانية ليست أمريكا التي يعرفها العالم، وهو ما دعا الرئيس ترمب إلى مناشدة الحزب الديمقراطي في الكونجرس إلى إنهاء قاعدة التعطيل.
* *
لكن الصراعات والخلافات امتدت مع سياسات ترمب إلى كل قطاعات الدولة داخلياً وسياساتها الخارجية، حتى أنها مست التعليم، والاتجاه نحو إيقاف الدعم للجامعات، وإيقاف التأشيرات لمن يرغب في الدراسة من الأجانب فيها، إلى أن وصل أمر هذه القضية إلى المحاكم القضائية للفصل بين ما تريده الجامعات، وما يرغب فيه الرئيس ترمب من تعديل لأنظمتها، بما اعتبرته الجامعات تدخلاً في سياساتها، وتقويضاً لنجاحاتها وتفوقها تعليمياً على مستوى العالم.
* *
المعركة بين البيت الأبيض والحزب الديمقراطي، ومعهم المهمشون من المواطنين الأمريكيين، قد تستمر مع سياسات الرئيس ترمب، وقد تأتي محفزات أخرى لاستدامة هذه الخلافات، وأسباب جديدة لتعميق الفجوة بينه وحزبه الجمهوري، مع الحزب الديمقراطي، وقد تظهر نتائجها جلياً في الانتخابات التشريعية القادمة، وإذا ما فاز الحزب الديمقراطي -كما هو متوقع- وحصل على الأكثرية، فإن فرصته ستكون أكبر في تحجيم مشروع الرئيس ترمب في إدارته البلاد، وسياساته الخارجية.
* *
ولا يغيب عن الذهن أن أي خلل، أو ثغرات، أو تفكيك، في سياسة أمريكا، سوف تمتد آثارها اقتصادياً وسياسياً على مستوى العالم، إن إيجاباً أو سلباً، وهو ما لا يغيب عن أذهان المشرعين، والحزبين، والمواطنين الأمريكيين، ودول العالم التي تراقب بحذر ما يجري في الساحة الأمريكية، وتتهيأ للعمل بما هو لصالحها.
* *
لم يتقبل الرئيس ترمب نتائج الانتخابات، وخاصة انتخابات نيويورك، ما جعله يسارع في لحظة غضب إلى تصوير الحزب الديمقراطي على أنه حزب اشتراكي متطرف، نسبة إلى أن زهران ممداني اشتراكي وديموقراطي ومسلم، ويرفض الاعتذار عن أي منها، بل إن ترمب هدد بقطع التحويل عن نيويورك وربما الاستيلاء عليها، بعد فشل أندرو كومو أمام زهران في انتخابات شهدت تصويت أكثر من مليوني ناخب، رغم الدعم الذي قدمه ترمب لحاكم نيويورك الذي خسر في الانتخابات، وضمن الإحباط الذي يمر به الرئيس ترمب خلال خسارة حزبه في انتخابات نيويورك، فقد هاجم اليهود الذين صوتوا لممداني، واصفاً إياهم بالأغبياء في موقف ظهر فيه الرئيس وكأنه يستغرب أن يصوت يهودي لمسلم لرئاسة بلدية نيويورك.
* *
ويمكن تفسير هذا الفوز المدوي لزهران بسبب استقطابه للناخبين من الشباب بمقاطع فيديو جاذبة، ووعوده للناخبين بالنقل المجاني، والاسكان الميسر، وزيادة الضرائب على الأغنياء وغيرها، وهي وعود لم يعتد عليها الناخب في نيويورك، وأغرته للاندفاع والتصويت للمرشح على أمل بتحقيقها، ما جعل زهران يعتبر أن نيويورك بهذا الفوز الذي حققه، وكأنها تقدم له تفويضاً للتغيير.
* *
عمدة نيويورك الجديد الشاب زهران خاطب الرئيس ترمب بأن مدينة نيويورك مدينة المهاجرين، والآن يقودها مهاجر، رداً على تهديده له بالترحيل، لكن ما ينبغي عدم إغفاله في ظل اكتساح الديمقراطيين للجمهوريين في ولايتين وأكبر المدن الأمريكية أن هذه الانتصارات ربما كانت بسبب ربط مرشحيهم في حملاتهم الانتخابية بسياسة الرئيس ترمب، وبالتالي نجحوا في كسب هذه الأصوات، ما يعزز القول أنه بسبب عدم الرضا لدى الناخبين عن سياسة الرئيس ترمب، خاصة بين الشباب، والسود، والأقليات، والمستقلين، ما اعتبره البعض إنذاراً مبكراً للجمهوريين باعتباره الاختبار الأول والأخير لسياسة ترمب بعد أقل من عام على عودته إلى البيت الأبيض.

