لم تنشغل الأرض يومًا، بكلّ ما دار فوقها من حروبٍ ومصالحٍ وتحوّلاتٍ، كما انشغلت بكرة القدم، هذه اللعبة الصغيرة التي تدور بين قدمين، كرةٌ لا تعرف اللغة لكن تتكلّمها جميع الألسن، تمرّر سحرها وخديعتها بأناقةٍ مدهشة، تُبهر وتُضلّل في الوقت ذاته، وتجمع بين الصيّاد والفريسة في رقصةٍ واحدة، إنها كرة القدم مرآةُ الإنسان وقد رمى بنفسه فيها، يلهث وراء حلمٍ مستديرٍ لا نهاية له.
منذ أن عرف الإنسان الركض على الأرض، كان عليه أن يركل شيئًا ما.. حجراً، ثم جمجمةً، ثم وهمًا يُسمّى النصر، ففي العام 1016 كما يروي التاريخ، احتفل الإنجليز بطرد الدنماركيين عن بلادهم، لا بالنشيد أو الوليمة، بل بركل بقايا رؤوسهم في الساحات، كانت الرؤوس تتدحرج بين الأقدام، والضحكات تصعد مع الدم، والفرح يتكوّر كجريمةٍ مكتملةٍ في الهواء، هناك وُلدت اللعبة، من رحم العنف، من لذة الانتقام، من نزق الإنسان وهو يُعيد تشكيل العالم على هيئة جثةٍ تضحك..حُرّمت اللعبة مرارًا، لا لأنّها كانت مجرّد لهوٍ، بل لأنها كانت تذكّر الإنسان بالوحش الذي يسكنه، ومع ذلك ظلّت تعود، كأنها غريزة لا تُشفى، حتى جاء القرن الثامن عشر حين أقرتها إنجلترا رياضةً رسمية في مدارسها، فأنشأت من ملاعبها معابد جديدة للانتماء، وصنعت من أبنائها رهبانًا يركضون نحو المجد، وفي العام 1857 وُلد أول نادٍ في التاريخ، «شيفيلد»، لتبدأ الحكاية الحديثة لكوكبٍ لم يعد يرى نفسه إلا من خلال هذه الدائرة البيضاء على العشب الأخضر، لقد تغيّرت أدواتها وبقي جوهرها إنسانٌ يبحث عن معنى القوة داخل لعبةٍ تُخفي تحت أناقتها دافعَ الصراع القديم، ربما لهذا، تبدو المدرجاتُ والأصوات الإعلامية المنحازة بل والمتطرفة أحيانا اليوم، امتدادًا لمعارك الأمس، تُرفع فيها الأعلام بدل السيوف، وتُطلق فيها الشتائم بدل الرصاص فالجماهير ليست سوى جيوشٍ مؤقتةٍ تبحث عن نصرٍ رمزيٍّ يبرّر خساراتها اليومية، وفي كل صرخةٍ تصدر من أفواههم، هناك ظلُّ رأسٍ قديمٍ ما زال يتدحرج بين الأقدام!
حتى اليوم، ما زال العالم - وهو يلهث وراء فكرة السلام - يستثمر في هذه اللعبة ليقنع نفسه أنه أصبح إنسانيًّا، لكنّ الحقيقة أكثر تعقيدًا فالوحش الذي كان يركل الجثث في ساحات القرون الأولى، صار الآن يجلس في المنصات، يلبس بدلةً رسمية، ويشتري الفرق بعقودٍ من ذهب، وحدهم اللاعبون السود، وأصحاب البشرة المختلفة، يذكّروننا بأنّ الملعب - رغم أناقته - ما زال غابةً قديمة، العنصرية التي تتسلّل من المدرجات ليست سوى صدى لذلك التاريخ الدموي، والشتيمة التي تخرج من فمٍ متحضرٍ ليست إلا ركلةً أخرى في وجه الإنسانية لهذا ستبقى كرة القدم صورة الإنسان في أكثر حالاته تجريدًا كائنٌ يركض وراء وهمٍ صغيرٍ يحمله الهواء، يريد أن ينتصر على فراغه ولو بركلةٍ مؤقتة، وفي النهاية، كما في البدء، ليس الفرق كبيرًا بين الرؤوس التي تدحرجت قبل ألف عام، والكرات التي تتدحرج اليوم؛ سوى أن الدم صار يُطلَى بالعشب، وأن الوحش صار أكثر تهذيبًا في ابتسامته..!

