نحن نعيش في مرحلة نادرة، حيث يُعاد بناء اقتصاد بأكمله على مرأى ومسمع جيل كامل. هذا التحول الهائل، المتمثل في مشاريع ضخمة ورؤية طموحة مثل "رؤية 2030"، يفرض علينا كإعلاميين ومفكرين إعادة قراءة المشهد الاجتماعي من زاوية مختلفة، حيث الأضواء المسلّطة بغزارة على قصص الثراء والنجاح السريع التي ولدتها هذه البيئة الخصبة، مُغذيةً توقّعات عالية لدى الشباب أن الثراء الفاحش والإنجاز الضخم بات مجرد مسألة "فرصة مثالية" أو "فكرة واحدة عبقرية".
هذا الوهم، وهم "المليونير السريع"، هو التحدي الاجتماعي الحقيقي الذي يواجه الجيل الطموح اليوم، فالتحدي ليس في إيجاد الفرص التي تتوالد يوماً بعد يوم، بل في كيفية التعامل مع السرعة الجنونية لتوقعات النجاح نفسها.
لقد نشأ الجيل الحالي وهو يشاهد ثورتين متزامنتين، الأولى، ثورة مؤثري الشبكات الاجتماعية الذين يربحون الملايين من الشاشة، وثورة ريادة الأعمال التي تعد بالخروج من القالب الوظيفي التقليدي، فكانت النتيجة، تقلص جاذبية الوظيفة المستقرة، وحتى الوظيفة القيادية، أمام "الوهج" الاقتصادي لمشاريع الرؤية الكبرى.
السؤال الذي يطرحه الشباب اليوم لم يعد "كيف أجد وظيفة مستقرة؟"، بل تحول إلى "كيف أكون شريكاً فورياً وكبيراً في هذه التغييرات؟"، وهنا يكمن الخطر؛ فالاقتصاد لا يُبنى على المليونيرات فقط، بل على آلاف الكفاءات التي تؤدي دورها ببطء وتركيز، إذ تتسع فجوة بين "النجاح اللامع" الذي يظهر على المنصات الرقمية، و"النجاح العميق" الذي يتطلب سنوات من العمل المؤسسي المضني وبناء التخصصات الدقيقة.
إن الثقافة البصرية للنجاح، حيث يُعرض الثراء كـ"منتج نهائي" دون مراحل "التصنيع" الشاقة، تخلق ضغطاً اجتماعياً غير صحي: إما أن تكون "مليونيرًا في الثلاثينات" أو أنك "متأخر عن الركب".
هذا الضغط قد يضر بالابتكار الحقيقي؛ لأن الابتكار يتطلب التجريب، والفشل، وإعادة المحاولة، لكن السعي وراء "النجاح السريع" يجعل الشباب يخافون من الفشل؛ لأن الفشل في زمن نجوم الشهرة الرقمية يصبح "وصمة" اجتماعية، لا "درساً" اقتصادياً يُبنى عليه، فالثراء الحقيقي في هذا العصر يجب أن يُقاس بالقدرة على خلق القيمة المستدامة وليس مجرد تجميع الثروة السريعة. النجاح لا يعني بالضرورة تأسيس شركة ناشئة بمليار دولار، بل قد يكون في أن تكون مهندس بنية تحتية يحل مشكلة معقدة في مشاريع التنمية، أو متخصصاً يبني نظاماً صحياً فعالاً يعتمد على التكنولوجيا في مجتمعه.
لتجاوز هذا الوهم، يجب على المجتمع والنظام التعليمي والإعلام إعادة تعريف "النجاح". يجب أن نحتفي بـ"الإنجاز العميق" المتمثل في بناء الكفاءة، والتخصص الدقيق، والإسهام في البنية التحتية الصلبة للدولة. هذا النوع من النجاح يحتاج إلى صبر، ولا يتناسب مع سرعة "قصة إنستغرام".
دورنا، نحن كإعلاميين، هو أن نُبصر القارئ أن الفرص الحقيقية تكمن في طول النفس، والتعمق، وفهم أن النجاح في زمن الرؤية هو سباق ماراثوني للتحمل، وليس سباق سرعة خاطف. هذا هو التوازن الاجتماعي الذي سيضمن استدامة التحول الاقتصادي للمملكة.

