كان الاحتفال بافتتاح المتحف المصري الكبير بالغ الروعة والبهاء، خصوصاً مع عشرات الوفود التي حضرت من الغرب كله لتستمتع بالموسيقى الغربية والرقص الغربي والمشهد الهائل لمباني المتحف المثلث، والدرج الهائل بالآثار والتحف على جانبيه، ويقف في وسط المشهد، وطليعته تمثال رمسيس الثاني الضخم ومن بعده تحف تشييع وقبر توت عنخ آمون الخمسة آلاف. شعار المتحف والحفل في كلام الرئيس السيسي الحضارة والسلام، وأنه لا حضارة من دون سلام. الدولة المصرية العريقة التي صنعت السلام هي التي صنعت هذه الحضارة التي يستمتع بها «العالم» الآن.
في مشهد الاحتفال الضخم تذكرت فوراً احتفال الخديو إسماعيل بافتتاح قناة السويس. كان مشهداً أوروبياً كبيراً، وعزفت فيه أوبرا عايدة. هو النموذج الحضاري نفسه الذي عُرض في افتتاح متحف، لكنه أكثر روعة وتنوعاً، وإن لم تكن فيه أوجيني ملكة فرنسا وزوجة نابليون الثالث!
في احتفال الخديو إسماعيل، ورغم الفنون الغربية، كانت لا تزال هناك آثار ومعالم من روح الشرق، بحسب التخيل الغربي. أما هذه المرة فالغربان (الكلاسيكي والحديث) كانا حاضرين حتى في الملابس الفرعونية.
الكلاسيكيات الجديدة الممثَّلة بالمتاحف الضخمة والفرق الأوبرالية منذ القرن السابع عشر كانت حاضرة لتمثّل حضارة السلام، حسبما اختار لها المصريون العنوان والنموذج بالخلفية الأوروبية الحضارية منذ القرنين السابع عشر والثامن عشر. الأوروبيون مغرمون بالحضارتين المصرية والبابلية، وأكثر بعثات الآثار منهم قبل أن ينضمَّ إليهم الأميركيون واليابانيون. ولذلك جاء الاحتفال المتحفي ونموذجه احتفالات الأوروبيين والأميركيين واليابانيين في المناسبات المشابهة.
هي تقاليد عصر النهضة الأوروبية أو التي تطورت فيها وقد صارت نموذجاً لكلّ العالم. وقد تلاءم معها اليابانيون والهنود والكوريون، ويوشك أن يدخلها أو يتلاءم معها الصينيون. وقد عرض المصريون مشهداً يدلُّ على الإتقان واللمعان. إنما الفرق أنّ ثقافة الحضارة الجديدة عند هؤلاء جميعاً من دون شرق وغرب وآسيوي وأوروبي تُظهر احتضاناً شبه كامل، بينما لا تزال في ديارنا تشهد تمرداتٍ وحروباً كانت وطنية وسياسية واستراتيجية، لكنها صارت ثقافية وحضارية، كما توقع هنتنغتون في صدام الحضارات (1993 - 1996).
قبل قرنٍ ونصف شبَّه خير الدين التونسي «المدينة الأوروبايوية»، كما سماها بالسيل الذي لا يمكن دفعه، بل لا بد من الخوض فيه حتى لا نبقى على الأرض الجرداء.
الحروب حروب حداثة واستعمار، ودخلت عليها تجاذبات الهوية والثقافة التي تختزن عنفاً أيضاً. فلماذا وبعد مائة وخمسين عاماً من الاقتناع والتقليد لا يزال بعض شبابنا يشعرون بالغربة، مع أن الجانب الذي يجذبنا إليه الآن هو جانب الموسيقى والمتاحف والفنون والآثار وسائر مجالات جماليات الحياة؟! عندما كان جوزف ناي صاحب مصطلح «القوة الناعمة» يحاول إيضاح جاذبية أميركا فيما وراء الحرب وقوة الجيش، كان «الواقعيون» يهجمون عليه باعتباره واهماً(!). المصريون يقولون إن المتحف سيجتذب زيادة خمسة ملايين سائح، معظمهم من الغرب الأوروبي والأميركي ومن اليابان المستغربة(!). والاجتذاب إلى سحر مصر القديمة وليس مصر الجديدة. فماذا هو المستنكر في ذلك ومتاحف نيويورك وباريس واليونان وإيطاليا تجتذب مئات الملايين؟!
لقد سبق أن ذكّرتُ بكتاب طه حسين عن مستقبل الثقافة في مصر، التي يريد عميد الأدب العربي دفعها قديماً باتجاه اليونان وحديثاً باتجاه أوروبا، بيد أن قضايا الهوية والانتماء إذا داخلت الثقافة، بقصد التغيير فيها، فإنها تفضي إلى انقساماتٍ باتجاهاتٍ متضاربة تظلم كل الأطراف وتذكِّر بقول القرآن: « وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ».
إنّ قوة الثقافة الجديدة أو الأوروبايوية المتفوقة تظهر في أن لا بديل عنها. فأين هي الثقافة الأخرى أو حتى البديل الآخر الذي يعرض نموذجاً أو إرشاداً أكثر سلامة وسلاماً؟ وما عادت المشكلة في التقليد المفارق أو الطهورية التاريخية؛ بل أيضاً في الثقافة الحاملة على الكولونيالية القديمة والمستمرة فكراً وعملاً. والنزعة الكولونيالية هذه تلعن الغرب التنويري واليميني على حدٍ سواء، بحجة التآمر على العالم، خصوصاً على الإسلام(!). وإنه ليبلغ من سوء حظنا أننا لسنا بحاجة إلى تآمر الآخرين، ما دام «دود الخل منه وفيه»، كما يُقال.
مصر الحديثة تستفيد من مصر القديمة في المعنويات وفي المصالح. لكنّ هذا الأمر لا تستفيد منه مصر وحسب؛ بل هو الذي يجلب عشرات الملايين إلى أوروبا أيضاً، ولو تمتعت أفريقيا ببعض الاستقرار لكان للتراث الأفريقي نصيب من الاهتمام. وإن ذكر كثيرون أنّ للسياحة الكثيفة سلبياتها أيضاً!
هي رؤية للعالم ونظامٌ للعيش ما عاد يمكن تجاهله أو التمرد عليه. قد تكون هناك وجوهٌ للغلوّ، لكنها وجوهٌ وحسب، وقد ثبت «الموديل» والحكم في تجربة النجاح.

