منيرة العصيمي
لم يكترث الروائي ويليام فوكنر بالعالم خارج حدوده، بينما إرنست هيمنقواي اهتم ببقية العالم، ولكن بشكل محدود جدًا، وفيليب روث لاتوجد أيضًا في رواياته إلا القليل من المشاهد المتعلقة بالضفة الغربية في معرض حديثه عن إسرائيل... هذا ما قصده المفكر والناقد الأدبي إدوارد سعيد في مقابلته الأخيرة قبل سنة من وفاته. وهو الذي تجاوز كتابه الاستشراق دائرته الأكاديمية ليصبح ظاهرة فكرية عالمية.
بينما فيرجينيا وولف، التي نادت بأن تكون للمرأة غرفة خاصة بها، ودخل ولو بسيط لتكتب، فقد ألقت باللوم على النساء لأنهن لم يكتبن بجد، وسمحن للرجال بأن يكتبوا عن نفسياتهن، بينما كانت المرأة منشغلة بالظروف الفيزيقية. والسؤال المهم الذي طرحته فرجينيا في كتابها (غرفة تخص المرء وحده): لماذا كانت أحوال أحد الجنسين مزدهرة وموسرة، وأحوال الآخر على هذا القدر من الفقر؟
هي السيدة نفسها التي حين طلب منها كاتب لاتعرفه أنْ تشاركه رسالته في إيقاف الحرب، أجابت بأن الأهم من هذا كله هو بناء كلية للنساء. وهنا يبرز سؤال آخر: هل لا بد للكاتب أن يحمل شعارًا، أو يناضل لأجل قضية ما؟ وهل عليه أن يكتب عن المجتمع كي يكون صادقًا؟
أتذكر هنا الكاتبة جين أوستن، التي تناولت في روايتيها (العقل والعاطفة) و (الكبرياء والهوى) العلاقات الأخوية والإنسانية في الريف الإنجليزي، دون أن ترفع الشعارات أو تدّعي الإصلاح، لكنها عبّرت عن واقعها بصدق وعمق.
كذلك أدبنا السعودي، الذي تناول الموضوعات الاجتماعية في كثير من الروايات مثل رواية باهبل للروائية رجاء عالم ورواية القندس للروائي محمد حسن علوان والكثير من الإنتاج الأدبي السعودي الذي اهتم بالقضايا المحلية، فهل الأوضاع الاجتماعية هي خبز الكاتب؟
نتذكر الشاعر أودنيس في قصيدته (الوقت) من ديوانه أوراق في الريح، حين قال:
سيكونُ الصدقُ موتًا
ويكون الموتُ خبزَ الشعراءْ
ويتجلى هذا المعنى أيضًا عند كاتب العبرية عاموس عوز، الذي عرض أزمة الهوية والانتماء في مجتمعه اليهودي وشعور اليهوديين برفض المجتمعات لهم حيث كانوا يجتهدون في إظهار حسن نواياهم، وينقمون على هذا العدوان الإسرائيلي. حيث يقول في سيرته (قصة عن الحب والظلام):
هذا هو الدافع الغريب الذي لازمني منذ كنت صغيرًا، الرغبة في أن أمنح فرصة أخرى لمن لاتوجد ولن تكون لهم فرصة ثانية. وهذا الدافع الذي ما يزال يحركه كلما جلس لكتابة قصة.
لكن هناك من يرى أنّ الكاتب يمكن أن يعرض موضوعًا يهم الجميع حتى وإن لم يخرج عن حدوده، كما فعل هيمنقواي في رواية (الشيخ والبحر)، حيث جسّد من خلال البطل سانتياغو معاني الإصرار، والكفاح، والانتصار، وجعل من معاناته مرآة لمعاناة الإنسان مع الحياة وظروفها القاسية.
ثم نعود إلى إدوارد سعيد، الذي أثار فكرة مشاركة الكتّاب هموم العالم بأقلامهم، فقد خشي أن يفقد عوالمه البائدة في مصر، وفلسطين، ولبنان بعد وفاة والدته. وحين شُخّص بمرض اللوكيميا وجد في المذكرات وسيلة لتوضيح أفكاره، ولاسيما تلك المتعلقة بوالده... فكان كتاب (خارج المكان) محطة مهمة في مسيرته، لأنه تجاوز حدود السيرة إلى أسئلة الهوية، والانتماء، والانقسام بين مكانين وهما الشرق والغرب.
بينما فيليب روث الذي على حد قول إدوارد سعيد بأنه عرض القليل من حديثه عن فلسطين فيقول الآخر:
ما أرغب فيه فعلًا هو أن أجد فكرة تبقيني مشغولًا حتى موتي، ولست أعير اهتمامًا لمسألة كتاب جديد، إذ قد أكتفي بفكرة طويلة تشغلني لبقية حياتي.
وهكذا يتبين أنّ الكتابة لا تقتصر على الالتزام السياسي، أو الاجتماعي، ففي رسائل ( درب الكتابة الوعر) يقول الكاتب والقاص إرسكِن كالدِول:
لا أبتغي إيصال حقائق فلسفية أو تغيير قدر البشرية من خلال رؤية خاصة، بل أكتب قصصًا إبداعية تكثّف الجوهر، وتضيف جديدًا إلى الحياة.
ونختم ما بدأناه بقول بول أوستر:
لا نكف عن محاولة ترجمة التجربة إلى لغة، ومن هنا ينبع الشعر، بينما الرواية هي التشابك الفريد من نوعه بين الكاتب والقارئ، إنها المكان الوحيد في هذا العالم الذي يجمع بين غريبين في حميمية مطلقة.
وبين من يرى في الكتابة موقفًا، ومسؤولية تجاه العالم. ومن يكتب لصوته الداخلي، أو لقضية تخصه وحده. يبقى السؤال مطروحًا:
هل لابد أن تحمل الكتابة قيمًا تشغل الإنسان وتعبّر عنه، أم يمكن أن تكتفي بجمال لغتها دون أن ترتبط بقضية أو معنى إنساني معين؟

