رامي الخليفة العلي
منذ عقود طويلة، احتل الفن السوري مكانة مميزة في الوعي الجمعي للشعب، فقد شكّلت الدراما والمسرح والسينما جزءاً من الهوية الثقافية، ورافقتها أصوات ممثلين ومغنين حملوا على عاتقهم رسالة فنية كان من المفترض أن تكون صوت المجتمع ووجدانه. لكن هذه الصورة المثالية تصدّعت منذ أن ظهر الدور الذي لعبه كثير من الفنانين السوريين في مرحلة ما قبل سقوط نظام بشار الأسد، إذ تحوّلت المنابر الفنية إلى أدوات تسويغ وتلميع لصورة السلطة، وغدا كثير من الوجوه المحبوبة وجوهاً دعائية تخدم رواية النظام وتبرر ممارساته. فالفنان الذي يفترض أن يكون صوت الحق وصدى آلام الناس انخرط في خطاب رسمي يبرر القمع ويمجّد القائد ويهتف للسلطة في وقت كان فيه السوريون يعانون من استبداد خانق ومصادرة لحقوقهم الأساسية، فبدلاً من أن تكون الدراما نافذة للحرية صارت أداة من أدوات السيطرة الناعمة التي تكرس الخوف والتبعية. هذه الخيانة الرمزية لم تقف عند حدود الماضي، بل امتدت آثارها إلى الحاضر حين اكتشف السوريون بعد سقوط النظام أن كثيراً من هؤلاء الذين كانوا يتصدرون الشاشة لم يستغلوا شهرتهم ومكانتهم لإعادة بناء الثقة مع الناس أو لترميم الشرخ العميق الذي أحدثته مواقفهم السابقة، بل على العكس انسحبوا من المشهد العام أو انشغلوا بمصالحهم الخاصة بعيداً عن قضايا الناس وهمومهم. لقد كان الأمل معقوداً على أن يستعيد الفن السوري دوره في التعبير عن المعاناة وفي بناء الوعي الوطني، غير أن هذا الأمل تبدد أمام مشهد من اللامبالاة والانسحاب، وكأن التجربة المريرة التي عاشها الشعب لم تكن تعني شيئاً لكثير من الفنانين الذين لطالما تغنّى الجمهور بأعمالهم. هنا تحديداً تتجلى خيبة الأمل الكبرى، فالفنان الذي يملك تأثيراً هائلاً على الوجدان العام فضّل الصمت أو التواطؤ، تاركاً الناس يواجهون وحدهم قسوة الواقع. المفارقة المؤلمة أن الفنان الذي كان يزهو بالحديث عن القيم الإنسانية والمبادئ السامية على خشبة المسرح أو عبر الشاشة، تراجع حين احتاجه الناس في أصعب لحظاتهم، وترك مكانه شاغراً أمام أصوات أقل صدقاً وأكثر جرأة على تزوير الحقائق. الناس لا تريد من الفنانين الانخراط المباشر في العمل السياسي، بل يكفي أن ينهضوا بواجبهم الاجتماعي في مناصرة قضايا المواطن البسيط، من تعليم وصحة وحقوق اللاجئين وإعادة توطينهم، وأن يكونوا جزءاً من المبادرات الإنسانية التي نشأت هنا وهناك في مواجهة المأساة السورية. لكن ما حدث أن معظمهم آثر الغياب، ولم نرَ منهم حضوراً فاعلاً إلا من رحم ربي، بينما ظلوا في الغالب صامتين وغائبين كخُشب مسنّدة، لا حياة فيها ولا أثر. لقد فقدت الدراما بريقها منبراً للتعبير عن هموم الناس، وفقد الجمهور ثقته بنجومه الذين لم يعودوا يمثلون سوى أنفسهم. إن خيانة الفنان ليست مجرد خيانة فردية، بل هي خيانة للقيم التي يرفعها الفن وللدور الذي يجب أن يلعبه في توعية المجتمع والدفاع عن كرامته، وحين يسقط الفن في امتحان الأخلاق، فإن السقوط يكون مدوياً ومؤلماً لأنه يطال الوجدان الجمعي برمته. لذلك فإن الشعب السوري الذي قدّم التضحيات العظام لا يمكن أن يغفر بسهولة هذا التخاذل، وهو ينظر إلى الفنانين الذين صمتوا أو تواطؤوا بعين الريبة والمرارة؛ لأنه كان يتوقع منهم أن يكونوا صوتاً للحقيقة لا بوقاً للسلطة، ويداً للبناء لا وسيلة للهروب، لكنهم يا للأسف خذلوه مرتين: مرة حين اصطفوا مع الاستبداد، ومرة حين غابوا عن لحظة الحاجة إلى صوت صادق يعيد شيئاً من الأمل وسط ركام الخراب.