: آخر تحديث

متلازمة العيش والعمل

1
1
1

علي عبيد الهاملي

السؤال الذي يطرق أبواب عقولنا من حين لآخر: هل نحن نعمل لنعيش، أو نعيش لنعمل؟

قد يبدو الأمر للوهلة الأولى قضية فلسفية نخوض فيها على استحياء، لكنه في الحقيقة سؤال عملي يحدد مسار حياتنا، ويؤثر على جودة أيامنا، وحتى على سعادتنا. فالعمل ضرورة لا غنى عنها، والحياة بكل تفاصيلها نعمة تستحق أن نعيشها بكامل حضورنا، والمشكلة تبدأ حين يختل الميزان بينهما، هنا تضيع منا البوصلة، فلا نعود نستطيع التمييز بين الاتجاهات، فتنغرس أقدامنا في الرمال المتحركة، ولا نعود قادرين على الحركة.

العمل هو الذي يوفر لنا متطلبات العيش الكريم، ويفتح لنا أبواب الطموح، ويمنحنا الإحساس بالإنجاز، وهو أيضاً وسيلة للتعبير عن قدراتنا وتحقيق ذواتنا، لكن حين يتحول إلى غاية في ذاته، ويبتلع وقتنا وطاقتنا على حساب الأسرة والصحة والإحساس بالحياة التي نعيشها، فإنه يصبح عبئاً ثقيلاً، مهما كان مردوده المادي مغرياً. في المقابل، الحياة بلا عمل منتج تفقد توازنها، وتتحول إلى وقت مهدور وطاقة مبددة، لأن العمل لا يوفر المال فقط، بل يمدنا أيضاً بالمعنى والانتماء والاحترام لذواتنا.

التوازن ليس وصفة جاهزة تنطبق على الجميع، بل هو قرار شخصي واعٍ يقوم على ترتيب الأولويات، فليس المطلوب أن نقلّص العمل إلى حد الكسل، ولا أن نضحي بالحياة من أجل إنجاز لا ينتهي، المطلوب أن نمنح لكل جانب حقه، وأن ندرك أن وقتنا هو رأس مالنا الحقيقي. ساعة نقضيها مع أبنائنا أو في قراءة كتاب، أو حتى في صمت نتأمل فيه، قد تعادل في قيمتها مشروعاً ضخماً أنجزناه في المكتب أو المصنع أو المكان الذي نعمل فيه بشكل عام.

ما يزيد الأمر تعقيداً أن عالم اليوم لا يترك لنا حدوداً واضحة بين العمل والحياة، خصوصاً مع انتشار التكنولوجيا والعمل عن بُعد. أصبح من السهل أن تمتد ساعات العمل إلى البيت، وأن تصاحبنا رسائل البريد الإلكتروني ومكالمات الزملاء حتى على مائدة العشاء. هنا تظهر الحاجة إلى ما يسميه الخبراء «الانفصال الصحي» عن العمل بعد انتهاء ساعات الدوام، لنتمكن من استعادة طاقتنا، وإعطاء من حولنا حقهم من الوقت والاهتمام.

العمل المتوازن لا يعني ساعات أقل بالضرورة، بل يعني حضوراً ذهنياً كاملاً فيما نفعل. فإذا كنا في العمل فعلينا أن نؤدي بإتقان، وإذا كنا مع الأسرة فعلينا أن نمنحها كامل انتباهنا، أما أن نحمل هموم المكتب إلى البيت، أو ننشغل برسائل الهاتف ونحن وسط حوار مع من نحب، فهذا إهدار للحظات لا تعوّض.

لقد رأينا كثيرين يلهثون خلف العمل حتى آخر العمر، ثم اكتشفوا أن حياتهم الشخصية تآكلت، وأن أقرب الناس إليهم صاروا غرباء، ورأينا آخرين حافظوا على توازنهم، فاستمتعوا بالعمل كجزء من الحياة، لا كبديل عنها، وكانوا أكثر إنتاجية وسعادة. وفي خضم هذا الصراع الصامت بين ساعات العمل ونبض الحياة، علينا أن نتذكر أن التوازن ليس ترفاً، بل ضرورة لحياة صحية ومعنى أعمق.

يقول الفيلسوف الإنجليزي جون لوك: «الثروة الحقيقية للإنسان هي الوقت الذي يملكه ليعيش كما يحب»، لهذا علينا أن نجعل وقتنا حيث قلبنا، وأن نمنح حياتنا نصيبها من العناية، كما نمنح عملنا نصيبه من الجهد، لتكتمل المعادلة التي تحفظ إنسانيتنا، وتمنحنا المعنى الذي نبحث عنه.

في مكان ما، تحت شجرة جميز في كنيسة قديمة مهدمة بإسبانيا، كان الكنز ينتظر الراعي الأندلسي سانتياغو، بطل رواية الكاتب البرازيلي «باولو كويلو» الشهيرة «الخيميائي»، بينما كان هو يقطع الفيافي ويعبر البحار بحثاً عن كنزه الموعود، لم يكن سانتياغو يعلم أن الرحلة لم تكن لتقوده إلى الذهب فحسب، بل لتفتح عينيه على معنى الحياة.

تُرى كم واحداً منا يشبه سانتياغو؟ نلهث خلف العمل والإنجاز، ونرهق أنفسنا في عبور أيامنا كما لو كانت قافلة لا تعرف التوقف، بينما الكنز الحقيقي؛ الصحة، العائلة، اللحظات الصغيرة، ينتظرنا حيث بدأنا.

التوازن بين العمل والحياة مطلوب في كل مراحل العمر. إنه ليس ترفاً، بل هو إدراك أن الرحلة أغلى من الوجهة، وأننا نعمل لنعيش، لا نعيش لنعمل.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد