: آخر تحديث

رسائل الهوية السعودية في اليوم الوطني

2
3
2

تحتفل المملكة العربية السعودية في 23 سبتمبر (أيلول) من كل عام بـ«اليوم الوطني»، لا بوصفه مجرد ذكرى سنوية رمزية، بل محطة تعمل فيها على تقديم «الهوية» بوصفها فكرة حيوية تتطور وتتكامل من دون أن تفقد قيمها الصلبة التي تأسست عليها، والتقاليد الراسخة، ولكنها أيضاً لا تقع في فخ الجمود أو الانزواء في البعد المحلي وحسب.

الاحتفالات العامة في مختلف المحافظات السعودية، من يراقبها بدقة، يجد أنها تحولت إلى فعل سياسي وثقافي واجتماعي، مخطط له من قِبل مؤسسات الدولة، ليكون إحدى الروافع الداعمة لـ«رؤية المملكة 2030»، ودفع الجيل الجديد للانخراط فيها، من خلال فهم كُنه المنجز السياسي الذي قام به الراحل الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، وجعل هذا التاريخ حجر زاوية في صناعة الهوية الوطنية، وهي هوية قائمة على الإنجاز، والتراكم عبر الأجيال، والفخر بما تحقق، والطموح نحو التقدم، وليس مجرد شعارات برّاقة تُقالُ في أمسيات الشعر والغناء.

بهذا المعنى: «اليوم الوطني» لم يعد مجرد ذكرى لتوحيد البلاد عام 1932 على يد الملك المؤسس، بل أصبح مناسبة تقدم فيها المملكة نفسها بوصفها دولة حديثة منفتحة على العالم، وراسخة في جذورها العربية والإسلامية، وواثقة بتقاليدها وقيمها النابعة من تقاليد عريقة لإنسان شبه الجزيرة العربية.

هذه «الهوية» يجري التأكيد على روحها من خلال الانخراط المباشر في تعزيز مستهدفات «الرؤية» التي نصت بوضوح على أن تقوية الهوية الوطنية هدف استراتيجي، وذلك من خلال بناء «مجتمع مواطنة مسؤول، جذوره راسخة تستند على قيم الإسلام السمحة والفخر بالوطن، مع الاعتزاز بالتراث والثقافة السعودية». ولذا تم إطلاق «برنامج تعزيز الشخصية السعودية» عام 2017 تحت إشراف «مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية» ضمن حزمة برامج أخرى وضعت لها خطة زمنية لتنفيذها، حددت حتى عام 2020. والهدف من هذا البرنامج يتمثل في «تنمية وتعزيز الهوية الوطنية للأفراد وإرسائها على القيم الإسلامية والوطنية، وتعزيز الخصائص الشخصية والنفسية»، وذلك من أجل «تحفيز الأفراد نحو النجاح والتفاؤل، وتكوين جيل متسق وفاعل مع توجه المملكة اقتصادياً وقيمياً». إضافة لهدف آخر مهم يتعلق بـتحصين المجتمع و«وقايته من المهددات الدينية والاجتماعية والثقافية والإعلامية»، أي أن الهوية تحضر هنا أيضاً بوصفها حامية للذات من أي أخطار قد تؤدي لهشاشة الفرد أو الإضرار بالسلم الأهلي والنسيج الاجتماعي المتنوع سعودياً، وهذه الحمائية لا تعني الانكفاء، وإنما إبقاء كيان الدولة متماسكاً، وجعل التنوع الثقافي والجغرافي مُحصناً من أي محاولات خارجية لإثارة الفتن الطائفية والعرقية والجهوية!

هذه «الهوية السعودية» تم العمل عليها عملياً وليس مفاهيمياً فقط. وكذلك برزت في حقول إنشائية عمرانية، من خلال تعزيز الهوية المحلية لكل منطقة من مناطق المملكة، واستعادة التراث بوصفه ركيزة بصرية ورمزية للهوية، وتفعيل أكواد بناء مستلهمة من روح معمار المدن والقرى السعودية. يمكن ملاحظة ذلك بشكل جلي في مشاريع الدرعية والعلا وعسير وسواها.

حتى مراسم الاستقبال الملكية لضيوف خادم الحرمين الشريفين، تحضر فيها الهوية السعودية بشكل جلي ومهيب، بدءاً بالسجاد والنقوش التي زينت به، والخيّالة، وفرق الفنون الشعبية، والضيافة، وحتى اللوحات التشكيلية التي عُلقت بأناقة على جدران القصور الملكية.

ثقافياً، هنالك اهتمام بإحياء الموسيقى السعودية بتمظهراتها المختلفة، وتقديمها في مسارح عالمية، كما تطوير السينما المحلية التي ينتجها مخرجون سعوديون، والمشاركة بمنتجاتها في مهرجانات دولية مثل «كان» و«البندقية»؛ حيث تعرض التقاليد بوصفها لغة معاصرة قادرة على مخاطبة الداخل والخارج.

الملك سلمان بن عبد العزيز شدّد على «الاعتزاز بهويتنا الوطنية... والمضامين العميقة التي تُجسد ثوابتنا، وتعد مصدراً للفخر بتاريخنا»، وهذا الفخر دفع الحكومة السعودية لأن تشتغل على تقديم تجربتها المستندة لإرثٍ ممتد منذ نحو 3 قرون عبر إمكانات شعبها وأرضها، وهو ما أكده ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، عندما شدّد على أن المملكة «لا تسعى إلى أن تكون نسخة من أحد، بل تبني نموذجها الخاص انطلاقاً من مقوماتها الاقتصادية والثقافية وشعبها وتاريخها».

شعار اليوم الوطني الخامس والتسعين لعام 2025 «عزّنا بطبعنا» يعكس هذه الرؤية السياسية - الثقافية. فهو يُنبئ عن خصالٍ متجذرة في الإنسان السعودي، مثل الكرم والضيافة والأصالة والشيمة والنخوة والأنفة... ويعيد تقديمها بوصفها علامة للهوية السعودية المعاصرة، وهذا ينعكس أيضاً على الدبلوماسية السعودية النشطة، التي تعمل على تحقيق المصالح الوطنية، من دون أن تغفل البُعد الأخلاقي، وهو بُعد متجذر في السياسة السعودية.

هذا الشعار يوجه رسالة للداخل أن الاعتزاز لا يأتي من استنساخ الخارج بل من الطبع المحلي الأصيل، من خلال التأكيد على الصالح من قيمٍ وتقاليد وتطويرها بما يتناسب مع المتغيرات الزمانية. أما الرسالة نحو الخارج، فهي أن السعودية تقدمُ نفسها بوصفها شريكاً عالمياً لا ينسلخ من تاريخه، بل ينطلق من ثقة بتراثه الذي يزجيه إلى زوارٍ المملكة بكل ترحاب ومحبة وبُعدٍ إنساني.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد