مرور 53 سنة على أحداث ميونيخ التي وقعت في مثل هذا الشهر من عام 1972، لم يغيِّر شيئاً في العقل المتطرف في إسرائيل، ولم يجعله يقتنع بأن ما لم يُثمر هناك لن يُثمر بالضرورة هنا.
يومها كانت غولدا مائير على رأس الحكومة في تل أبيب، وكان فريق رياضي إسرائيلي قد ذهب ليشارك في دورة الألعاب الأولمبية في مدينة ميونيخ الألمانية، وكانت منظمة «أيلول الأسود» الفلسطينية قد تربصت بالفريق في المدينة.
كانت الحصيلة مقتل 11 رياضياً إسرائيلياً، وخمسة من المنفذين، ومعهم اثنان من الألمان، وكان الحدث بمثابة الزلزال الذي هز إسرائيل، فلم يحدث من قبل أن جرى حصد هذا العدد من الرياضيين في حادثة واحدة، ولم يحدث أن خسر فريق إسرائيلي رياضي بمثل ما خسر الفريق المشارك في تلك الدورة.
وكان للحادثة وقع الصاعقة على رأس مائير التي سارعت إلى اجتماع ترى فيه ماذا عليها أن تفعل، وفي نهاية الاجتماع أطلقت ما سمّتها عملية «غضب الرب»، وكانت تهدف إلى تصفية كل الذين شاركوا في اصطياد أعضاء الفريق الإسرائيلي.
وحين وقع الاعتداء الإسرائيلي على العاصمة القطرية الدوحة في التاسع من هذا الشهر، جرى استدعاء ظروف وتفاصيل عملية «غضب الرب». ولم يكن الاستدعاء في مجرد أن العملية هناك والاعتداء هنا وقعا في الشهر نفسه مع اختلاف السنة، ولكنه كان في الأسلوب الذي وقّعت عليه غولدا مائير في 1972، ثم في الأسلوب المُطابق الذي وقّع عليه بنيامين نتنياهو في 2025!
الأسلوب أو النهج هو نفسه، كأنَّ لا رصيد للتجربة في حياة البشر، أو كأن نتنياهو يمشي على طريق مائير معصوب العينين، فلا يرى أن عمليتها لم تكن لها أي حصيلة في المجمل العام، وبالتالي، فإن عمليته لن تكون لها هي الأخرى أي حصيلة، إذا ما قسنا الحصيلة في الحالتين على مدى ما تؤدي إليه في الصراع على أرض فلسطين عند الحساب الختامي.
مائير قررت تصفية كل الذين شاركوا في قتل 11 رياضياً. حسنٌ. ثم ماذا بعد؟ لا شيء في الحقيقة لأن المسافة من هناك إلى هنا شهدت وتشهد استمرار الصراع كما هو بين الطرفين: الإسرائيلي المحتل من جهة، والفلسطيني صاحب الأرض من الجهة الأخرى، ولم يكن مقتل 11 رياضياً إسرائيلياً مقنعاً لأن تفكر تل أبيب بطريقة مختلفة، ولا كذلك مقتل كل أعضاء «أيلول الأسود» وعناصره أو غالبيتهم في أقل القليل!
جاء نتنياهو بعد 53 سنة من العملية ليقرر استدعاءها من جديد، وكان اعتداؤه على الدوحة دليلاً على ذلك، فهو قد قرر تصفية كل الحمساويين الذين شاركوا في «طوفان الأقصى» الذي يُتمم العامين في السابع من الشهر المقبل. ولما كان رئيس حكومة التطرف في تل أبيب قد صفَّى كل مَنْ استطاع أن يصل إليه منهم في قطاع غزة، فإنه قد استدار لتصفية آخرين في مواقع متفرقة، وكانت الدوحة في تقديره أحد هذه المواقع، وهو لا يكتفي بذلك وإنما يعلن أنه من الوارد أن يمتد استهدافه إلى أماكن أخرى!
ما هذا؟ هذا مشي أعمى على طريق مشت فيه غولدا مائير من قبل، فلم تصل إسرائيل من وراء هذا المشي إلى شيء، وإنما بقيت تخسر كما يخسر الطرف الآخر وربما أكثر، وبقي القتل سبيلاً وطريقاً بغير نهاية، لا لشيء، إلا لأنه لا مائير نظرت إلى المسألة من زاويتها الصحيحة، ولا نتنياهو يريد أن ينظر إليها من الزاوية الصحيحة أيضاً.
القضية لا بد أن تعود إلى أصولها إذا شاء الإسرائيليون حلاً، وأصولها تقول إن هذه أرض محتلة في فلسطين، وإن الاحتلال يخلق مقاومته كما يخلق السبب نتيجته، فهذه هي طبائع الأمور، وهذه هي حقائق الأشياء، ولا تختل هذه الحقائق ولا تغيب مع أي احتلال، ولا تتبدل طبائع الأمور، ولا فرق بين أن يكون الاحتلال هنا في أرض فلسطين، أو أن يكون هناك في أقصى الأرض، لأنه حيث يوجد الاحتلال تنبت المقاومة في المقابل بالفطرة.
تصفية عناصر «أيلول الأسود» لم تجعل المنظمات الفلسطينية الشبيهة تتوقف عن أن تَنبت في أرض فلسطين، وتصفية جميع العناصر التي شاركت في «طوفان الأقصى» لا تعني أن طوفاناً من هذا النوع لن يأتي في المستقبل، وهذه ليست بالطبع دعوة للحمساويين أو لغيرهم من الفلسطينيين إلى مهاجمة الإسرائيليين، ولكن ما أقوله إشارة جديدة إلى فكرة أن الاحتلال، أي احتلال، يخلق مقاومته في الجهة المقابلة ويسقيها ويغذيها ويُنميها، وما عدا ذلك ليس سوى عدم رغبة في رؤية الأمور في إطارها الصحيح.
عملية «غضب الرب» كانت في مواجهة مع مقاومة مشروعة لمحتل يستولي على الأرض، ومن بعدها لم يتغير الاحتلال ولم يرحل، فجاء «طوفان الأقصى» كأنه «أيلول الأسود» الجديد. وسوف تستمر هذه الدوامة بغير سقف ولا أفق ما لم ينتبه المتطرفون الذين يحكمون في تل أبيب، إلى أن هذه الحلقة المفرغة من القتل ومن التصفية ليست حلاً، ولن تكون.