: آخر تحديث

المفردات «الملتبسة» في السودان

14
12
11

ليس هناك من عاقل في السودان لا يريد رؤية نهاية للحرب التي أحدثت دماراً غير مسبوق طال كل شيء ومسّ كل مواطن. لكن الحديث عن «نهاية» الحرب كثيراً ما تتخلله لغة مبهمة، بينما تبقى المفردات الأساسية المطلوبة لتحديد الطريق للخروج من الأزمة غائبة أو متنازعاً عليها. يكثر الحديث عن «استعادة المسار المدني» و«الانتقال»، ويتكرر شعار «لا للحرب»، لكن من دون وجود حد أدنى من التوافق حول كيف يمكن أن تنتهي الحرب، وكيف سيتحقق الانتقال واستعادة المسار نحو الحكم المدني الديمقراطي. والسؤال الأخطر: هل نعني ببساطة إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل الحرب، وكأن شيئاً لم يتغير في المشهد السوداني؟

ليست هناك جهة تملك شرعية تلقائية للحكم. الذين يريدون العودة إلى السلطة فقط من خلال إعادة دورة الزمن إلى ما قبل الحرب، يحاولون القفز على كل الحقائق والمتغيرات التي طرأت على المشهد. سودان ما بعد الحرب، لن يكون كما قبلها.

«ثورة ديسمبر»/كانون الأول أعطت شرعية للقوى المدنية، لكنها بددتها بالمماحكات والصراعات والمناورات، التي قادت في نهاية المطاف إلى هذه الحرب. لا يمكن لأي طرف أن يتبرأ من مسؤولية ما جرى وانتهى بنا إلى هذه المأساة. كثير من السودانيين لم يعودوا ينظرون إلى هذه القوى مثلما كانوا ينظرون إليها مباشرة بعد الثورة، وبات مؤكداً أنها فقدت تأييد كثيرين، حتى داخل صفوف شباب الثورة أنفسهم، بسبب التباين في المواقف من الحرب والاستقطاب الحاد الذي أفرزته في الساحة.

«قوى الحرية والتغيير» ذاتها، بمختلف مسمياتها وتحوراتها من «قحت» إلى «صمود» تشرذمت ويقف قسم منها اليوم في صف «قوات الدعم السريع» ويشارك في حكومتها الموازية المتوهمة.

الموقف الضبابي من «قوات الدعم السريع» ليس في صالح القوى التي تتبناه، وليس في مصلحة البلد بالتأكيد. فمستقبل هذه القوات ليس قضية يمكن تجاوزها بالكلام المبهم. نسبة معتبرة من السودانيين باتت ترفض أي وجود لهذه القوات وقادتها في المشهد المستقبلي. أي صيغة اتفاق تعيد «الدعم السريع» إلى المشهد بصيغة أو لافتة جديدة، لن تكون سوى هدنة هشة مؤقتة، وأخطر من ذلك ستكون بمثابة رسالة سيئة: مفادها أن العنف هو طريق مقبول للحصول على مكاسب سياسية أو اقتصادية، وأن من يسلح نفسه ويقتل المواطنين الأبرياء وينهب ممتلكاتهم ويدمر البلد، ويمارس الإبادة، يمكن أن يُكافأ بحصة في السلطة لاحقاً.

في ظل الصورة المشوشة الراهنة هناك من يعمل جاهداً لترويج خطاب يعمد للمساواة بين الجيش و«قوات الدعم السريع» بهدف تسجيل مكاسب سياسية، أو ظناً منه أن إضعاف الجيش هو الطريق الوحيد لإبعاده عن المشهد السياسي. وفي هذا الإطار جرى ترويج خطاب «جيش الكيزان» وشعارات «ما عندنا جيش».

الجيش السوداني، رغم أي ملاحظات وانتقادات، يبقى مؤسسة وطنية قائمة منذ ما قبل الاستقلال، وهو الوعاء الجامع الذي يرمز إلى سيادة الدولة ووحدتها. لا يجوز أخلاقياً أو وطنياً وضع الجيش على قدم المساواة مع «قوات الدعم السريع» بكل سجل ممارساتها ودورها في الحرب الراهنة. المطلوب هو إصلاح الجيش وتطوير عقيدته العسكرية ليكون جيشاً قوميّاً مهنيّاً بعيداً عن الاستغلال السياسي، لا تجريمه أو تقويض مكانته.

السؤال المركزي إذن: كيف نؤمّن الانتقال إلى حكم مدني من دون أن نفتح الباب لتكرار التجارب الفاشلة السابقة، وبما يضمن الاستقرار للسودان؟ أولاً، الشرعية لا تُمنح تلقائياً لأي فصيل، الشرعية الوحيدة المقبولة هي شرعية صناديق الاقتراع. لهذا السبب من الضروري أن تكون أي فترات انتقالية يجري الحديث عنها أو التخطيط لها، قصيرة وواضحة الأهداف، وتقود إلى انتخابات في أقرب الآجال.

لتحقيق هذا الأمر لا بد من حوار سوداني - سوداني شامل لا يقصي أحداً يبحث قضايا الحكم والانتقال بما يهيئ لإعادة البلاد إلى سكة الحكم المدني عبر صناديق الاقتراع.

في المشهد الراهن الإقصائيون موجودون في الجانبين، فهناك إسلاميون يريدون إقصاء مجموعة «صمود» بكل مسمياتها وتحوراتها، وهناك في جانب «صمود» من يدعون لإقصاء الإسلاميين من الساحة، وتصنيفهم جماعةً إرهابية لتحقيق هذا الهدف. هذا الطريق لن ينهي الصراعات، ولن يقود إلى حل لأزمة السودان، بل سيزيدها تعقيداً، ويطيل أمدها، ويقلص فرص الاستقرار أمام أي سلطة قادمة.

قناعتي أن الإقصاء السياسي ينبغي أن يكون من حصيلة صناديق الاقتراع أو من خلال محاكمات عادلة، لا عبر التحريض والتأجيج، أو قرارات استثنائية تكرّس ثقافة الثأر. الوصول إلى ذلك يتطلب آليةً شاملة متفقاً عليها للمساءلة والعزل السياسي القانوني لكل من يثبت ارتكابه جرائم أو فساداً. بدلاً من لغة الإقصاء، فلتكن المفردات هي: مساءلة لا إفلات، ديمقراطية لا إقصاء، انتقال قصير يفضي إلى انتخابات، وأولوية لحماية المدنيين وتنظيف الساحة من منطق القوة الغاشمة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد