: آخر تحديث

«تشرشل» يدخّن السيجار في أروقة التاريخ...!

13
12
11

كان نابليون مهووساً بالتاريخ إلى حد العشق، وكان مغرماً بحكم التاريخ، وكانت عيناه مصوبتين نحو صورته الفاتنة التي سيتركها للمستقبل الذي سيصبح فيما بعد هو التاريخ. كان يرى نفسه جزءاً من سلالة «الأبطال العظام» الذين يستلقون على أريكة وثيرة في كتب التاريخ، استلهم سيرة الإسكندر المقدوني وقيصر وهنيبعل، وحفظ سيرهم، وراح يقارن نفسه بهم، وكثيراً ما كان يتساءل: «ماذا سيقول التاريخ عني؟».

حقاً ماذا سيقول عنه التاريخ؟ سوى أنه كان طموحاً، لكنه طموحه أعمى، سيذكر التاريخ أنه نقل أوروبا إلى عصر القوانين العصرية، وأعاد صياغة مفهوم الدولة المركزية الحديثة، وفتح الباب أمام صعود الطبقات الوسطى، بعدما ضرب امتيازات النبلاء، وأنه كان قائداً عسكرياً عبقرياً، لكنّ التاريخ سيظل يذكر له أنه جلب الخيبة والعار لبلاده، وأنه أشعل حروباً أودت بحياة ملايين البشر في أوروبا والعالم، وأنه بنى مجده على التوسع الإمبراطوري، وأن خسائره تراكمت منذ حملته على مصر التي انتهت بدمار هائل في معركة «أبو قير» البحرية على يد نلسون، وصولاً لحملته على روسيا (1812) التي تسببت في أكبر كارثة في مسيرته الحربية، فقد دخل موسكو بجيش ضخم يفوق 600 ألف جندي، وعاد مع أقل من عُشر قوته، ثم خيبته في معركة «لايبزيغ – الأمم» (1813) في ألمانيا محققاً أكبر هزيمة ساحقة له، وأدت لدخول الحلفاء باريس، وصولاً لاستسلامه في العام التالي، ونفيه إلى جزيرة (إلبا)، ثم عودته بعناد ليقود معركة «واترلو» (1815) التي انتهت بهزيمة تاريخية لفرنسا تحت قيادته، وكانت نهاية الإمبراطورية النابليونية إلى الأبد، وظلّت صورته في منفاه الأخير في «سانت هيلانة» آخر ما سيذكره التاريخ لإمبراطور أوروبا الذي أصبح سجيناً معزولاً في جزيرة بعيدة في الأطلسي، حتى مات وحيداً عام 1821، وهو لم يبلغ الثانية والخمسين، وللعلم فإنه حتى في منفاه الأخير في تلك الجزيرة، كان يُملي مذكراته على معاونيه ليضمن أن صورته تصل للتاريخ كما أرادها هو، لا كما أرادها خصومه.

ليو تولستوي في روايته «الحرب والسلام» يرى أن الناس يتوهمون أن نابليون صنع التاريخ. لكنه لم يكن سوى أداة صغيرة في حركة أكبر لا يعرف أحد مداها؛ فـ«التاريخ لا يكتبه الأبطال، بل ملايين البشر الذين يعيشون ويموتون دون أن تُسجَّل أسماؤهم».

هناك قادة لديهم هاجس المستقبل، وهم الذين يسخرون قدراتهم لتحسين ظروف الحاضر وصناعة إنجازات للمستقبل، وهناك قادة آخرون مسكونون بصورتهم التي سيخلدها التاريخ، فالحاضر لا قيمة له، إلا باعتباره جسر مرور للخلود. والحقّ أن للتاريخ إغراء، خاصة إذا كانت صفحاته مفروشة بالسجاد الأحمر للبطولات الحقيقية أو الوهمية، فالكلّ يبحث عن الخلود، ولا يوجد أكسير للخلود كالذي يمنحه التاريخ، خاصة مع خلفيات ثقافية تطرب لصدى القوة وصليل السيوف، وثقافات تعالج انكساراتها بأفيون البطولات المتوحشة لرجال التاريخ!

طالما كان الرئيس نيكسون يشتكي من ظلم الرأي العام بعد فضيحة «ووترغيت»، ويسلّي نفسه بمقولة دسها له هنري كيسنجر وصار يتبناها: «التاريخ في النهاية سيحكم عليّ بعدل أكثر مما فعل معاصريّ»، تشرشل على الضفة الأخرى من الأطلسي كان أكثر استهتاراً، حين قال: «التاريخ سيكون لطيفاً معي، لأنني أنوي أن أكتبه»، لكنّ تشرشل أغفل أن التاريخ لا يرحم، فبطل بريطانيا في الحرب العالمية الثانية، الذي قاد بلاده نحو الانتصار ضد النازية، هو في صفحات أخرى من التاريخ «إمبريالي عنصري» سيذكر له التاريخ أنه واجه بشراسة وقمع كل محاولات التحرر من الاستعمار البريطاني، وأنه على نحو خاص مسؤول عن «مجاعة البنغال» الرهيبة (1943) التي مات فيها نحو 3 ملايين شخص، كما سيذكر التاريخ آراءه العنصرية وإيمانه بتفوق العرق الأبيض المسيحي، وقوله عن الهنود إنهم «يتكاثرون مثل الأرانب»، ووصفه شعب السودان بـ«البرابرة»، وتسويغه استخدام الغازات السامة ضد السكان الذين تمرّدوا على الحكم البريطاني في العراق، وبالتأكيد سيذكر له التاريخ دوره في قيام دولة إسرائيل على أرض الفلسطينيين الذين عبّر عن ازدرائه لهم بقوله: «أنا لا أؤيد فكرة أن خطأ قد حدث للعرب في فلسطين، لأن يهودياً أكثر تطوراً ووعياً قد حلّ محلّ عربي متخلف هناك».

يظنّ بعض القادة أن هروبهم نحو التاريخ، سيضمن لهم مأوى فاخراً في غُرفاته. لو صرفوا بعض الوقت في تحسين الحاضر لأخذوا بلادهم ومجتمعاتهم كلها إلى المستقبل، الذي سيكون تاريخاً، لكنّ «التاريخ ماكر ومخادع» كما يقول هيغل، مَن يملك القوة والتأثير سيكتب بعض صفحاته، لكنه لا يضمن أن تبقى مضيئة للأبد... في رواية «1984» يكشف جورج أورويل أن التاريخ ليس سوى «أداة سلطة»، وبالتالي فإنّ حكم التاريخ لن يكون نزيهاً بل مصطنعاً «مَن يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل. ومَن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي»، يقول الشاعر العراقي معروف الرصافي:

فما كتب التاريخ في كل ما روَت

لقرَّائها إلا حديثٌ ملفَّقُ

نظرنا لأمر الحاضرين فرابَنا

فكيف بأمر الغابرين نصدِّق؟!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد