إعلان نيويورك ومرفقاته يشكّل إنجازًا دبلوماسيًا مهمًا وفرصة تاريخية لإعادة إطلاق مسار سياسي حقيقي بعد سنوات من الجمود والتصعيد.. وترحيب المملكة به ليس فقط تأكيدًا لموقفها الثابت تجاه القضية الفلسطينية، بل هو أيضًا رسالة بأنها عازمة على العمل لإيجاد حل عادل وشامل..
في خضمّ التوترات المستمرة والدماء التي تسيل في فلسطين، تأتي خطوة الجمعية العامة للأمم المتحدة باعتماد إعلان نيويورك ومرفقاته الصادر عن المؤتمر الدولي الرفيع المستوى لتسوية قضية فلسطين بالوسائل السلمية وتنفيذ حل الدولتين، كخطوة تحمل دلالات رمزية وسياسية عميقة تثير آمالًا لا بدّ من تفصيلها، لكنها أيضًا تواجه تحديات كبيرة. إن ترحيب المملكة بهذا الإعلان يُعدّ موقفًا منتظرًا، ودعوة للتنفيذ والصدق، لا مجرد حلم أو شعار سياسي.
أُقرّ الإعلان بأغلبية كبيرة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، حيث صوّتت 142 دولة لصالحه، بينما عارضته 10 دول، وامتنعت دول أخرى عن التصويت. وينص الإعلان على اتخاذ خطوات ملموسة، محددة زمنياً ولا رجعة فيها، نحو تحقيق حل الدولتين، أي قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 1967، مع القدس الشرقية عاصمتها، كما يدعو إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وحماية المدنيين الفلسطينيين، وإطلاق سراح الأسرى، ووقف الاعتداءات، إلى جانب إنشاء آليات دولية لتحقيق الاستقرار، بما في ذلك في قطاع غزة.
ويُعد ترحيب وزارة الخارجية السعودية أكثر من مجرد بيان دبلوماسي؛ فهو إعلانٌ عن رغبة المملكة أن تكون محورًا للتغيير، لا مجرد طرف يراقب الأحداث. فقد أكدت في بيانها أن اعتماد الإعلان يعكس الإجماع الدولي على السير نحو مستقبل سلمي يتمكَّن فيه الشعب الفلسطيني من إقامة دولته المستقلة وفقًا لحدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية. هذا الموقف ينسجم مع رؤية المملكة في دعم القضية الفلسطينية، ليس فقط من الناحية الرمزية، بل أيضًا عبر تفعيل أطر عمل دولية، وبناء شراكات متعددة الأطراف، وممارسة الضغط السياسي على الجهات المعنية لتطبيق بنود الإعلان. ويعيد هذا الدور السعودية إلى قلب الساحة السياسية كقوة دبلوماسية قادرة على الدفع نحو حل عادل بعد سنوات من خيبات الأمل والانتهاكات المستمرة على الأرض.
ورغم أهمية الإعلان السياسية والرمزية، إلا أنه يواجه تحديات كبيرة في التنفيذ. فالمصداقية الدولية ما تزال على المحك، إذ إن بعض الدول التي أيدت الإعلان قد لا تكون مستعدة لتحمل تبعاته أو تغيير مواقفها السياسية بما يتطلبه تنفيذه. كذلك، يواجه الإعلان رفضًا إسرائيليًا صريحًا، إذ اعتبرت حكومة الاحتلال أن الخطوة "أحادية الجانب" ولا تراعي الواقع الأمني والسياسي، بينما دعمته غالبية دول العالم، ما يعكس الشرخ العميق في الرؤى الإقليمية والدولية. يضاف إلى ذلك الواقع على الأرض الذي يزداد تعقيدًا مع استمرار الاحتلال، والتوسع الاستيطاني، والاعتقالات، والهجمات، والحصار، إضافة إلى الانقسام الداخلي الفلسطيني الذي يعيق إدارة الدولة الفلسطينية وتوحيد مؤسساتها. ولا يمكن إنجاح الإعلان دون دعم دولي فعّال يترجم من خلال ضغط سياسي حقيقي، ومساعدات إنسانية، وخطط لبناء مؤسسات الدولة، وخطوات أمنية شرعية تحت مظلة الأمم المتحدة.
تكمن أهمية هذا الإعلان، الذي جاء برئاسة مشتركة بين السعودية وفرنسا، في أنه يعيد القضية الفلسطينية إلى صدارة اهتمامات المجتمع الدولي، ويؤكد أن الدعم العالمي لحقوق الفلسطينيين ما يزال قائمًا رغم محاولات التشويش. كما يمنح الشعب الفلسطيني دفعة معنوية قوية، ويُلزم الأطراف الدولية التي تتحدث عن السلام بتحمل مسؤوليات واضحة، مثل تحديد موقفها من المستوطنات، ووضع جدول زمني لإنهاء الاحتلال، والاتفاق على وضع القدس، وهي قضايا كانت تُرحّل في المفاوضات السابقة دون حسم. كما يُعد الإعلان اختبارًا للدبلوماسية السعودية وقدرتها على لعب دور محوري في صناعة السلام، لا مجرد الدعوة إليه.
إن إعلان نيويورك ومرفقاته يشكّل إنجازًا دبلوماسيًا مهمًا وفرصة تاريخية لإعادة إطلاق مسار سياسي حقيقي بعد سنوات من الجمود والتصعيد. وترحيب المملكة به ليس فقط تأكيدًا لموقفها الثابت تجاه القضية الفلسطينية، بل هو أيضًا رسالة بأنها عازمة على العمل لإيجاد حل عادل وشامل. غير أن الرهان الأكبر يبقى على ما بعد التصويت، أي على الإرادة السياسية، وآليات التنفيذ، وضغط المجتمع الدولي لمنع التسويف وإفراغ الإعلان من مضمونه.. فإذا فشلت هذه الجهود، فسيصبح إعلان نيويورك مجرد وثيقة تُضاف إلى أرشيف قرارات الأمم المتحدة غير المطبقة، أما إذا نجحت، فسيكون خطوة حاسمة نحو تحقيق الحلم التاريخي بوجود دولتين تعيشان جنبًا إلى جنب، في أمن وسلام، فلسطين حرة ذات سيادة وكرامة، وإسرائيل في إطار حدود آمنة ومعترف بها.