: آخر تحديث

التجارة والاستثمار من تشخيص الفجوة إلى حلول عالمية تطبيقية

2
2
1

منيرة أحمد الغامدي

في المقال السابق طُرحت الإشكالية الجوهرية حول التداخل المؤسسي بين مساري التجارة والاستثمار في المملكة، وتحدثت عن حاجة المرحلة المقبلة إلى هندسة جديدة تتجاوز التعددية، وتخلق واجهة موحدة. هذه الإشكالية ليست سعودية بحتة بل واجهتها دول عديدة في مراحل تحولها الاقتصادي، ولذا فإن استعراض النماذج العالمية وتفصيل حلولها يقدم خريطة طريق قابلة للتكييف في السياق السعودي الوطني.

المملكة حققت في السنوات الأخيرة تقدمًا ملحوظًا إذ تجاوزت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر 80 مليار ريال في 2023 إلا أن المستهدف ضمن رؤية 2030 هو رفع مساهمة الاستثمار الأجنبي إلى 5.7% من الناتج المحلي الإجمالي.

التحدي الرئيس لا يكمن في ضعف الحوافز أو قلة المشاريع بل في تعدد النوافذ المؤسسية بين التجارة والاستثمار ما يضاعف التكاليف الخفية ويؤخر سرعة الإنجاز، وهنا تبرز الحاجة إلى حلول عملية أثبتت جدواها عالميًا ومن تلك على سبيل المثال أستعرض بعض التجارب. منذ 1961 أسست سنغافورة هيئة التنمية الاقتصادية (EDB) لتكون النقطة الموحدة أمام المستثمرين والنتيجة أن تسجيل الشركات والتراخيص يتم خلال أيام عبر منصة BizFile بدل أشهر، وما ميز التجربة أن الهيئة لم تكن مجرد منصة رقمية بل كيان بصلاحيات تنفيذية قادر على اتخاذ القرار دون الحاجة للرجوع إلى عدة جهات. وفيما يتعلق بالوضع الحالي لدينا فالتوصية التطبيقية هي إطلاق نافذة موحدة رقمية وميدانية تختصر كل رحلة المستثمر مع منحها صلاحيات تنفيذية كاملة بحيث لا يبقى المستثمر عالقًا بين وزارة التجارة ووزارة الاستثمار.

الأزمة الآسيوية عام 1997 دفعت كوريا إلى تأسيس Invest Korea كذراع استثمارية تحت مظلة KOTRA ( Korea Trade Investment Promotion) وأنشأت فرقا قطاعية مشتركة لكل صناعة (إلكترونيات، سيارات وتكنولوجيا)، وهذه الفرق تجمع مسؤولين من التجارة والاستثمار والقطاع الخاص وتعمل كفريق واحد لحل العقبات ومرافقة المستثمر من بداية المشروع حتى تصدير المنتج. وعليه فإن التوصية التطبيقية للسعودية تكون بإنشاء فرق تكاملية للقطاعات الاستراتيجية (مثل الطاقة المتجددة والتقنية والسياحة) تعمل بآلية شراكة بين الوزارتين والقطاع الخاص لتوحيد التفاوض وتقليل تضارب الرسائل الحكومية.

وحين نتحدث عن تجارب إقليمية قريبة في 2023 فقد استحدثت الإمارات وزارة الاستثمار الاتحادية لتكون المنصة المركزية مع تقارير ربع سنوية تتابع أثر السياسات وتكشف الاختناقات، وهذه الخطوة لم تُلغِ وزارة الاقتصاد أو المناطق الحرة بل جعلتها تعمل في منظومة واحدة ذات حوكمة عليا واضحة، ولذا يمكن اقتراح أن نقوم بإنشاء كيان تكاملي يرتبط مباشرة بمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية يضمن أن الاستراتيجيات الاستثمارية والتجارية تدار كمنظومة واحدة مع آلية تقارير ربع سنوية لقياس الأداء والشفافية.

منذ 1949، بنت أيرلندا جاذبيتها عبر IDA Ireland بالتكامل مع Enterprise Ireland حيث تُصدر تقارير سنوية عن الوظائف والاستثمارات الجديدة، وهذه الشفافية صنعت ما يعرف بمؤشر الثقة فأصبحت الشركات العالمية ترى في أيرلندا بيئة صادقة ومستقرة وجاذبة وعلى سبيل المثال في النصف الأول من 2025 وفرت الاستثمارات الأجنبية أكثر من 10 آلاف وظيفة جديدة، وقد يكون من المجدي إطلاق مؤشر سنوي للثقة الاستثمارية يقيس سرعة الإنجاز ورضا المستثمرين وحجم الوظائف الناتجة عن المشاريع مع نشر النتائج بانتظام لتعزيز صورة المملكة عالميًا.

وقدّمت هولندا نموذجًا مختلفًا لمعالجة التعارض بين التجارة والاستثمار من خلال إنشاء وكالة الاستثمار الأجنبي الهولندية (NFIA) لتكون الجهة التنسيقية التي تتولى الربط بين المستثمرين الأجانب والوزارات والهيئات المختلفة، والوكالة تعمل تحت مظلة وزارة الشؤون الاقتصادية الهولندية لكنها ترتبط ارتباطًا مباشرًا بوزارة الخارجية عبر شبكة السفارات والبعثات الدبلوماسية لتقوم بمهام الترويج الخارجي وجذب الاستثمارات، وبهذا وفّرت للمستثمر نافذة واحدة واضحة ومحايدة تختصر التعامل مع البيروقراطية الداخلية وفي الوقت ذاته ضمنت أن التجارة الخارجية والدبلوماسية الاقتصادية تتحركان بانسجام مع أهداف الاستثمار، والنتيجة أن المستثمر لا يشعر بتعارض الأدوار بين الجهات الحكومية بل يواجه واجهة موحدة قادرة على تيسير الإجراءات محليًا وفتح الأسواق خارجيًا وهو درس عملي يمكن الاستفادة منه لتجاوز التداخلات المؤسسية دون الحاجة إلى دمج هيكلي كامل.

وقد يتبادر الى الذهن أن هذه التجارب أو بعضا منها موجود في السعودية، ولكن سأضع هنا بعض الفروقات الجوهرية كمثال، فرغم أن المملكة أطلقت منصة استثمر في السعودية (Invest Saudi) لتكون الواجهة الترويجية لجذب الاستثمارات ضمن مستهدفات رؤية 2030، إلا أن المقارنة مع التجربة الكورية تكشف بوضوح أن الطرح مختلف فـ Invest Saudi تركز بالدرجة الأولى على إبراز الفرص الاستثمارية والتسويق للقطاعات الواعدة مع ربط جزئي بمنصات حكومية مثل مراس لتسهيل التراخيص لكنها تبقى في جوهرها منصة ترويجية وإعلامية أكثر من كونها كيانًا تنفيذيًا متكاملًا. في المقابل قامت كوريا الجنوبية بعد أزمتها المالية بإنشاء Invest Korea كذراع داخل وكالة KOTRA تجمع تحت مظلتها التجارة والاستثمار معًا وتعمل كنافذة موحدة بصلاحيات تنفيذية حيث يضم مقرها في سيول ممثلين من مختلف الوزارات والهيئات بما يمكّن المستثمر الأجنبي من إنهاء إجراءاته من الترخيص إلى التصدير عبر نقطة واحدة فقط. والأهم أن Invest Korea لا تكتفي بجذب المستثمر بل تقدّم خدمات متابعة ورعاية ما بعد الاستثمار (Aftercare) لضمان التوسع واستدامة المشاريع.

ولهذا فإن استلهام نموذج Invest Korea أو من تجارب دولية أخرى ليس تكرارًا لما هو مطبق في المملكة عبر منصة استثمر في السعودية، بل يمثل انتقالًا نوعيًا من مجرد الترويج للفرص إلى بناء منظومة مؤسسية متكاملة تجمع التجارة والاستثمار في نافذة واحدة ذات صلاحيات تنفيذية، وتوفر خدمات ما بعد الاستثمار لضمان الاستدامة. إن الاستفادة من تطبيق بعض هذه النماذج أو الاستفادة منها سيعالج التحدي الأكبر المتمثل في تعدد النوافذ والتكاليف الخفية، ويحوّل البيئة السعودية إلى منصة جاذبة عالمية قادرة على المنافسة مع المراكز الاستثمارية الرائدة.

التجارب العالمية تُظهر أن التكامل المؤسسي ليس رفاهية تنظيمية بل عامل تنافسي، والدرس الأوضح أن النجاح تحقق عبر نافذة موحدة تختصر الوقت من خلال فرق قطاعية متخصصة ومنصة ذات تقارير دورية ومؤشر ثقة شفاف. المملكة وهي على أعتاب استحقاقات رؤية 2030 تملك فرصة لتصميم نموذجها الخاص الذي يجمع هذه الحلول في صيغة سعودية متفردة ويحوّل التحديات الحالية إلى ميزة تنافسية تعزز موقعها كإحدى أهم الوجهات الاستثمارية والتجارية عالميًا.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد