: آخر تحديث

قصف قطر: انتصار الأخلاق على الهمجية

2
2
1

لم يكن غريباً جداً أن تهاجم إسرائيلُ العاصمةَ القطرية، وتدمر أبنيةً اعتقدت أنَّ قادة حركة «حماس» يجتمعون داخلها لبحث ملف التفاوض الذي ترعاه قطر ومصر والولايات المتحدة، لحل أزمة غزة. غياب الغرابة سببه وجود مؤشرات تدل على هذه النية، كذلك يشهد تاريخ إسرائيل على مطاردة وقتل كلِّ مَن قتل إسرائيلياً؛ لذلك اغتالت ليس فقط فلسطينيين شاركوا في عمليات اختطاف وقتل، بل لاحقت مجرمي النازية في كل أرجاء الأرض وكان آخرهم أدولف آيخمان الذي جرَّته مقيداً لإسرائيل وأعدمته. تريد إسرائيل أن تطبع صورة في أذهان من تراهم أعداءها أنها دولة عسكرية متفوقة مثل إسبرطة، قادرة على هزيمة الأعداء، وفرض السلام. إسرائيل لديها نظريتان جدليتان: الأولى الحرب المستمرة لهزيمة الأعداء، والأخرى الرغبة في السلام. نظرية الحرب يحملها متشددون مثل حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة وشعارهم «من النيل إلى الفرات»، ونظرية السلام يرفعها ليبراليون يؤمنون بدولة إسرائيلية وفلسطينية شريطة توفر ضمانات بمواصفاتهم.

هاتان النظريتان (الحرب والسلام) هما ديدن سياسة إسرائيل، وقصفها قطر برهانٌ عمليّ عليهما. جناح الحرب أكَّد أنَّ ضرب قطر هدفه حماية إسرائيل، وملاحقة قادة «حماس» مستمرة، وقتلهم وارد حيثما وُجدوا، فيما استهجن جناح السلام الضربة لأنَّها تعرقل السلام. لكن دعاة السلام هؤلاء، بقليل من البحث، هم أصلاً رجال حرب، وأياديهم ملطخة بالدماء، وبالتالي العلاقة عندهم بين السلام والحرب علاقة تخادمية، ودائماً لمصلحة إسرائيل، وفوق مصالح الآخرين، خصوصاً الفلسطينيين. بهذا الفهم تجاوزوا عمداً المنطق بدعوتهم دائماً إلى سلام يضعون تفاصيله، وحدوده، ومستقبله، ويستغربون كل الاستغراب إنْ رفضته الضحية المعذَّبة. ولكي يقنعوا العالم بسلامهم الأعوج يُرسلون أمهر رجال الدبلوماسية عندهم ليشرحوا للعالم خوفهم، ورعبهم الكبير، من دول عربية، ومتطرفين، يحيطون بهم إحاطة السِّوار بالمعصم؛ بذلك يبررون عنفهم من باب الدفاع عن النفس المكفول بشرعة الأمم المتحدة، والأعراف الدولية. هذا النهج ليس فريداً من نوعه؛ فقبله كان رأي قيصر روما الذي كان يعتقد أن القبائل الجرمانية والفرنسية المحيطة به ستتكتل، وتهاجمه، مع أنها تبعد أكثر من ألف كيلومتر عن روما؛ خوفه المصطنع دفعه إلى الاستفراد بكل قبيلة، وإخضاعها وضمّ أراضيها، وهكذا أجبر الجميع بالسيف على صلح فاسد تحت لافتة «السلام الروماني». هذا السلام منح روما كلَّ شيء، وترك آخرين سبايا أو قتلى أو مستسلمين للأمر الواقع.

الضربة الجوية لقطر هي استفراد إسرائيلي بمن يحيطون بها من الأعداء العرب، ومغزاها أن من يعارضون سياساتها الحربية أو السلمية، ومهما بعدت المسافة، عليهم أن ينتظروا الانتقام، أو يستعدوا قسراً للسلام الإسرائيلي؛ السلام الرافض لكل المبادرات العربية بالغة السخاء، لأنَّ سلام إسرائيل يشبه ما قاله زعيم إحدى القبائل الكلدانية في رده على السلام القيصري: «يحوّلون أرضنا إلى صحراء ثم يدعون ذلك سلاماً». ومن يخامره أدنى شك فلينظر إلى غزة، وكيف حوَّلوها إلى صحراء قاحلة، أو لينظر إلى شريط لبنان الجنوبي مع إسرائيل، أو إلى سوريا الوليدة وكيف يحتلون الأرض ثم يطالبون الجميع بالسلام. هذه السيكولوجية الإسرائيلية تعيش عقدة مَرضية لكونها تطالب بضمانات سلام فيما تدمِّر، وتغزو، وتهدد دولاً بعيدة، لا تعاديها؛ وهذا هدفه تمرير رسالة حازمة للجميع أن المفاوض في عملية السلام عليه أن يكون محامياً للدفاع عن إسرائيل المهدَّدة، وليس مفاوضاً حيادياً.

لكن مشكلة إسرائيل أنها تعيش عصراً مختلفاً عن عصر روما، عصراً أصبح فيه العالم قرية صغيرة، تحكمها قوانين دولية تُجرِّم الاستيلاء على أراضي الآخرين، وتحرم انتهاكات أعراف الحرب؛ عالم فيه اتفاقيات، وتجمعات مدنية، وحريات، ومؤسسات دولية، ومجلس امن، ولن تَقْدِر إسرائيل، في وجود كل هذا، على أن تتصرف مثل قيصر، لأنَّ شعوب العالم لا تتقبل تصرفات إسرائيل الهمجية مهما بهرجتْها بمساحيق لإخفاء وجهها البشع. كما أن التاريخ يخبرنا بأن روما انهارت، رغم عظمتها وقوتها، أمام المسيحية التي لا تحمل سلاحاً؛ روما قتلت الآلاف من المسيحيين، وعذَّبتهم وهدَّمت بيوتهم، لكنَّها في النهاية اعتنقت مجبرةً المسيحية.

هكذا إسرائيل؛ كلما تصرفت مثل روما سقطت أخلاقياَ أكثر، وازداد الفلسطيني الضعيف قوة، وستقبل مرغمةً بالتعايش مع الفلسطينيين على قدم المساواة. ونشهد اليوم موات إسرائيل أخلاقياً، واعتراف العالم بفلسطين، واكتشاف شعوب الأرض أن إسرائيل ديمقراطية مزيفة، وخدّاعة، وعنصرية، وأن قصفها مؤخراً لقطر رفع رصيد الحرج لدرجة أن أشدَّ مؤيديها، وعلى رأسهم أميركا، أدانوها لأول مرة في مجلس الأمن الدولي.

إسرائيل في أزمة أخلاقية كبرى، والفلسطينيون يزدادون، كلما صمدوا، تعاطفاً وتأييداً، وستدرك إسرائيل عاجلاً أم آجلاً أنَّها ليست أقوى من روما.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد