في أبريل (نيسان) 2018، جلستُ مع السفير الياباني في الرياض آنذاك، تسوكاسا أويمورا، في حوار مطوّل نُشر لاحقاً في صحيفة «Saudi Gazette» حول العلاقات السعودية - اليابانية وما يتجاوزها إلى الإطار الخليجي. اتَّسم حديثه بالوضوح والشمول، إذ أوضح أن «رؤية السعودية - اليابان 2030» ليست مجرد برنامج تعاون تقليدي، بل إطار استراتيجي يهدف إلى تناغم مسارات النمو بين البلدين. ثم تطرق إلى العلاقات اليابانية - الخليجية بأبعادها السياسية والاقتصادية والأمنية، مؤكداً مكانة المنطقة في الحسابات اليابانية بوصفها شريكاً استراتيجياً لا غنى عنه في استقرار الطاقة والتوازنات الدولية. وعند ختام اللقاء، قال لي بعبارة عفوية وبهدوئه المعروف: «اليابان ترى في الخليج قلباً للاستقرار العالمي، لا مجرد خزان للطاقة». وقد ظلت هذه الجملة حاضرة في ذاكرتي، وأجد اليوم معناها العملي في انعقاد الاجتماع الوزاري الخليجي - الياباني الثاني، الذي عُقد يوم الاثنين (1 سبتمبر- أيلول 2025م) في الكويت، حيث وُضعت تلك الرؤية موضع التنفيذ.
إن انعقاد الاجتماع الوزاري الخليجي - الياباني الثاني، هو استكمال لمسار بدأ قبل أكثر من عقد حين وُقعت مذكرة تعاون وحوار استراتيجي في مقر وزارة الخارجية السعودية في يناير (كانون الثاني) 2012م، التي أرست إطاراً مؤسسياً لتعزيز العلاقات في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والتنموية، عبر اجتماعات وزارية ودورية لكبار المسؤولين وتشكيل فرق عمل مشتركة. وبذلك انطلقت أولى خطوات تفعيل الحوار الاستراتيجي عملياً عبر خطة عمل مشتركة واجتماعات متخصصة جسَّدت التعاون بين الجانبين. وقد شكَّل ذلك اللبنة الأولى لحوار استراتيجي تدرَّج في خطواته من التفاهمات العامة إلى التطبيق عبر خطط عمل متعاقبة واجتماعات متخصصة. جاء أول اجتماع وزاري مشترك في الرياض عام 2023م ليقر تمديد خطة العمل المشترك بين الجانبين للفترة 2024 - 2028، ممهداً لتوسيع آفاق التعاون المشترك. ثم جاء لقاء الكويت في سبتمبر 2025م ليؤكد جدية الطرفين في توسيع الشراكة نحو قضايا تتجاوز أمن الطاقة، لتشمل التجارة الحرة، والاقتصاد الرقمي، والطاقة النظيفة، والأمن الغذائي، والتنسيق السياسي حيال أزمات الإقليم. وبذلك يكتسب الحوار زخماً متزايداً، لا بوصفه منصة ثنائية فحسب، بل بوصفه إطاراً استراتيجياً يعكس حرص الجانبين على المساهمة في صياغة التوازنات العالمية.
إن قراءة الشراكة الخليجية - اليابانية في بُعد واحد، سواء في مجال الطاقة أو الاستثمار، تُعد -في رأيي- إغفالاً لجانب التطور التاريخي لهذه العلاقة المهمة والاستراتيجية بين الجانبين. فمنذ منتصف القرن العشرين، أدركت اليابان ودول الخليج معاً الاحتياج الاستراتيجي المتبادَل؛ إذ رأت اليابان، التي كانت قد خرجت لتوِّها من الحرب العالمية الثانية باقتصاد منهَك وبحاجة إلى مصادر طاقة مستقرة، في نفط الخليج ركيزةً أساسية لنموها الصناعي، فيما وجدت دول الخليج في طوكيو شريكاً موثوقاً يضيف بعداً اقتصادياً وتقنياً بعيداً عن الحسابات السياسية المعقدة التي كثيراً ما ارتبطت بالقوى الغربية الأخرى. لقد مهّد هذا الإدراك المبكر لعلاقة مضت وتطورت بين الجانبين بخطوات متوازنة؛ من عقود الطاقة في الخمسينات والستينات، إلى توسيع مجالات التعاون الاقتصادي والثقافي، وصولاً إلى الحوار الاستراتيجي المؤسسي في العقد الأخير. ومع هذا التطور، برزت ملامح شراكة لم تعد تقتصر على الطاقة وحدها، بل اتسعت لتشمل مجالات الاقتصاد والسياسة والأمن والاستراتيجية.
وفي ظل التفاعلات الدقيقة والمعقدة في النظام الدولي وانعكاساتها الإقليمية، بات من الطبيعي أن تأخذ الشراكة الخليجية - اليابانية طابعاً أشمل يربط الاقتصاد بالسياسة، ويكمل بين الأمن والاستراتيجية. فهي لم تعد مجرد توازن مصالح آنيّة، بل إطار أوسع يعكس وعي الجانبين بضرورة بناء تعاون متعدد المستويات لمواجهة تحولات النظام الدولي. إن إقامة تنسيق سياسي أوثق بين دول الخليج واليابان يمنح العلاقة بعداً يتجاوز حدود المصالح المباشرة، ويجعل من الخليج شريكاً مساهماً في استقرار آسيا في ظل التنافس الجيوستراتيجي المحتدم بين القوى الكبرى. وفي المقابل، يتيح لليابان مجالاً أوسع للحركة السياسية، ويعزز صورتها بوصفها قوة مستقلة ومسؤولة فيما يتعلق بالسلام والأمن في الشرق الأوسط. وتُظهر الأرقام أن اليابان تعتمد على نحو 90 في المائة من احتياجاتها من النفط الخام من منطقة الخليج، مما يجعل مصالحها الأساسية في الطاقة والتجارة وثيقة الارتباط بتفاعلاتها مع المنطقة.
وعلى الرغم من أن العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الجانبين تمثل الأساس في معادلة الشراكة الاستراتيجية، فقد بلغ حجم التبادل التجاري نحو 114.4 مليار دولار أميركي في عام 2024، وهو ما يعكس متانة هذه الشراكة وعمقها. غير أن الحوار الاقتصادي الخليجي - الياباني لم يعد يقف عند حدود التجارة التقليدية، بل يتجه إلى صياغة نموذج للتنمية المشتركة، حيث تبحث اليابان عن استقرار طويل المدى لمواردها الحيوية، فيما تسعى دول الخليج إلى الارتقاء بالعلاقة الاقتصادية والتجارية إلى آفاق أكثر رحابة وعمقاً من خلال إطلاق شراكات نوعية، والاستفادة من التكنولوجيا والخبرة اليابانية في مجالات مستقبلية مثل: الطاقة المتجددة، والهيدروجين الأخضر، والذكاء الاصطناعي، والتقنيات المتقدمة، والصناعات التحويلية، والسياحة، وتعزيز الأمن الغذائي، بما يسرّع من التحول نحو اقتصاد متنوع قائم على المعرفة. وبالتالي، يبرز الحرص الخليجي على الإسراع في استكمال اتفاقية التجارة الحرة بين الجانبين، التي من شأنها أن تفتح آفاقاً جديدة عبر إلغاء التعريفات الجمركية، وتسهيل الاستثمارات المتبادلة، وإزالة العوائق غير الجمركية، الأمر الذي يعزز من تدفق السلع والخدمات ورؤوس الأموال ويرسخ المصالح المشتركة. وهكذا يتضح أن هذه الشراكة الاقتصادية تجسد فكرة أن الدبلوماسية ليست مجرد إدارة مصالح آنيّة، بل استثمار في توازن طويل المدى.
وأمنياً يمكن القول إن اليابان ما زالت تعتمد على الخليج لتلبية نحو 90 في المائة من احتياجاتها النفطية، يمر معظمها عبر مضيق هرمز، فيما تعبر نسبة مهمة من صادرات الطاقة الخليجية إلى آسيا عبر البحر الأحمر وباب المندب، وهي ممرات تواجه تهديدات متزايدة من هجمات الحوثيين التي أثرت على أمن الملاحة واستقرار الإمدادات. وعليه، تبرز أهمية تطوير التعاون الدفاعي والبحري بين الجانبين لحماية هذه الممرات والتصدي للقرصنة والتهديدات غير التقليدية. كما يتعزز التنسيق في مجال الأمن السيبراني بعدما كشفت هجمات مثل استهداف منشآت «أرامكو» عام 2012 عن حجم التحديات التي تواجه البنية التحتية للطاقة. ولا يقل عن ذلك أهمية التوجه نحو الطاقة المتجددة ومشاريع الهيدروجين الأخضر، بما يعكس ترابط الأمن الطاقوي والتكنولوجي بين الطرفين، ويرسخ قناعة مشتركة بأن أمن الإمدادات وأمن التكنولوجيا أصبحا وجهين لعملة واحدة.
وأخيراً، فإن ما خلص إليه اجتماع الكويت وما تضمنته خطة العمل المشتركة يجسِّد حرص الجانبين على تحويل العلاقة الخليجية - اليابانية إلى شراكة طويلة المدى تُسهم في ترسيخ الاستقرار الإقليمي والدولي. وهكذا تتأكد اليوم، بصورة عملية، المقولة التي قالها السفير أويمورا عام 2018 بأن الخليج قلب الاستقرار العالمي، وأن اليابان شريك موثوق في دعمه.