سهوب بغدادي
تشغل التقنية -خاصةً الذكاء الاصطناعي- حيّزًا لا يستهان به في يومنا الحاضر، فإن اعتمادنا على الوسائل الرقمية ومختلف الأدوات المصاحبة لها يجعل منها جزءًا لا يتجزأ في إطارات عديدة متداخلة في أسس معيشة الشخص، كالطالب، والمعلم، والموظف، والعالم، والباحث، وصولًا إلى الجانب الإبداعي كالإخراج والإنتاج والتصميم وغيرها من الفنون التقليدية التي امتزجت بتلك الرقمية، لنرى ونشهد ما نحن عليه اليوم من فن فريد يجمع بين أكثر من نوع من الأدوات والتقنيات والأحاسيس والأبعاد المنوطة بالعمل ككل وتنعكس بشكل مباشر على الإنسان ومفاهيمه وتجاربه التي يمر بها.
في هذا الصدد، افتتح مركز الدرعية لفنون المستقبل يوم السبت المنصرم، معرضًا جديدًا الذي يعد أول مركز متخصص في فنون الوسائط الجديدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بعنوان «استمرارية 25» إذ يحوي أعمالًا للدفعة الأولى من برنامج الفنانين الناشئين في فنون الوسائط الجديدة من دول متعددة هي: المملكة، ومصر، والجزائر، والأردن، وتونس، والمغرب، والبحرين، وكوريا الجنوبية، والمملكة المتحدة، وجنوب أفريقيا، في حقيقة القول، أنّ المعرض متفرد ومميز، ولفتني بشكل خاص عدد من الأعمال الفنية على سبيل المثال لا الحصر، عمل الفنانة والمدربة الأردنية آية أبو غزالة وهي فنانة بصرية و معالجة باستخدام الفنون الإبداعية.
لقد جسد عملها معاني كثيرة، بل لامسني بشكل كبير من ناحية جمعه أغلبية الحواس كالشم والبصر واللمس والسمع، وإخراجها للعمل الذي استغرق منها عامًا كاملًا، ويمثل رمزية «مشبك الغسيل» الذي تراكم وشكل مشبكًا عملاقًا يشابه الشجرة عديمة الأوراق، بالطبع يحاكي الفن ويجسد معاناة الشعوب على مر العصور، وما رغبت أبو غزالة أن تجعل من عملها الفني «ينمو في الداخل» آيةً شامخةً لمعاني الكفاح والاستمرارية والثبات ورسوخ الجذور الإنسانية والثقافية التي يأتي منها الشخص وإن ترك موطنه. كما شدني عمل آخر باسم «الذكاء الصاعد» للفنانة البريطانية «كارين بالمر» يقدم الذكاء الاصطناعي بطريقة أكثر إنسانية، عن طريق تحليل صوت الإنسان وعكس مشاعره الآنية، بالتأكيد خضت التجربة وكانت أول جملة لي تعكس «الحزن» فالتفت إلى مشاعري ووجدت أنني بالفعل أشعر بالإنهاك لذا قمت بعدها بتغيير طبقة صوتي واستحضار مشاعر أخرى ونجحت -حمدًا لله- في تغيير حالتي المشاعرية، بل إبقائها وتحسينها للأفضل، حيث تفاجأت الفنانة «بالمر» وأخبرتني أنّ هذه الحالة المشاعرية نادرة وجديرة بالتوثيق، وكان من أهم الأهداف المرادة من العمل أن نجد ونخلق التوازن بين التقنية والآلة التي تهيمن على جنبات حياتنا والمشاعر الإنسانية أو الإنسان ككل، في جانب آخر من المعرض، أحببت عملًا للفنانة الجزائرية سامية دزاير، بعنوان «تيغرست - خيوط المنفى» إذ برعت في نسج سجادة كبيرة من الصوف، حيث أبقت على هذا الفن التراثي الذي ورثته من جدتها وإن كانت على أرضٍ بعيدة عن أرضها حاليًا، فيما كرس الفنان التونسي ضياء ذهيبي عمله لتخليد ذكرى الثورة التونسية عبر عمل «أرشفة التذكُّر» الآثار الرقمية لثورة تونس على شكل مطبوعات ثلاثية الأبعاد تراكبت على بعضها البعض لتشكل هرمًا كبيرًا وفي قمته الحادثة الشهيرة التي كانت شرارة الثورة التونسية، كل هذه الأعمال وغيرها جسدت تداخل الآلة والتقنية وارتباطنا بها بشكل وثيق اليوم إلا أن الرسالة من المعرض برأيي ألا نفقد جوهرنا الذي يميزنا عن الآلة، فنحن نخطئ ونصيب ونقول مانعنيه وما لا نعنيه مراعاةً ومداراةً لغيرنا خوفًا من وعلى الآخرين، وفي هذا الأمر تتجلى أسمى معاني أن تكون إنسان!
معًا لأنسنة الآلة والتقنية.