منذ أكثر من عقد، يعيش الشرقُ الأوسطُ جدلاً صاخباً حولَ مستقبلِ الدولة وحدودِ سلطتِها أمام الكيانات الموازية. هذه الكياناتُ ليست جديدةً على المنطقة، لكنَّ لحظةَ ما سُمي «الربيع العربي» عام 2011 مثّلت أولَ انكشافٍ حقيقي لخطورتها. فقد بدا حينها أنَّ الدولةَ لا تواجه فقط غضب الشارع أو هشاشة البنى الاقتصادية والاجتماعية، بل تواجه منافسينَ منظمينَ ومموَّلينَ يمتلكون القدرةَ على ابتلاع الحراك وتوجيهه. لم يكن الأمرُ مجردَ احتجاجات عفوية، بل عملية استيلاء من قوى ما دون الدولة، في مقدمتها جماعة «الإخوان المسلمين»، على مساحات سياسية واسعة، في وقت كان من الخطأ توصيف ما حدث باعتباره ثوراتٍ ناجزة. لقد كانت تلك لحظة انكشاف أولى بأنَّ ثمة منافساً خطيراً للدولة من داخلها، من كيانات تدّعي الشرعية وتستند إلى آيديولوجيات عابرة للحدود.
وبعد أكثر من عقد، جاءت لحظة الانكشاف الثانية مع عملية «طوفان الأقصى» في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، التي لم تكشف فقط عن التوترات التقليدية بين إسرائيل والفلسطينيين، بل أعادت طرح السؤال الجوهري: ماذا يعني أن تكون هناك كيانات منظمة ما دون الدولة كـ«حماس» و«حزب الله» والحوثيين و«الحشد الشعبي»، تعمل بموازاة الدول وتتمتع بموارد مالية وعسكرية وإعلامية تجعلها لاعباً إقليمياً كاملاً؟ الخطر هنا يتجاوز البعد العسكري أو الفصائلي، فهو يتعلق بكيانات تحمل مشروعاً سياسياً عابراً للحدود ينافس الدولة الوطنية على الشرعية والسلطة. فهذه التنظيمات ليست مجرد جماعات عنف، بل بنى بديلة تمتلك مؤسساتها وتقدم نفسها أطراً اجتماعية وسياسية وخدماتية. ومع تراكم التجربة، يتضح أنَّ هذا النوع من الفاعلين لا يمكن التعايش معه في بيئة تسعى إلى التنمية والاستقرار، لأنه يقوّض مركزية الدولة ويستبدل بها ولاءات دون الدولة من طائفة أو مذهب أو آيديولوجيا.
في العلوم السياسية يُستخدم مفهوم «Non-state actors» لوصف أي كيان يمارس تأثيراً سياسياً أو اقتصادياً أو عسكرياً خارج إطار الدولةِ الرسمية، وقد يكون شركاتٍ كبرى أو منظماتٍ مدنيةً أو جماعاتٍ مسلحة. لكن في الشرق الأوسط أخذ المفهوم شكلاً خاصاً أكثر خطورة، إذ ارتبط بالميليشيات والتنظيمات الآيديولوجية التي تجد تمويلاً من الخارج وتملك مشروعاتٍ عابرةً للحدود، ما يجعلها في موقع تهديد مباشر للدولة القُطرية الحديثة. وإذا كان القرن العشرون قد شهد تجاربَ مبكرة لهذه الكيانات مع الفصائل الفلسطينية أو «حزب الله» أو «القاعدة»، فإنَّ مرحلة ما بعد 2011 أبرزت تحوّلها إلى شبكات معقدة سياسية وإعلامية وخدمية تنافس الدولة على مواردها وشرعيتها وأبرزها الجماعة الأم، كما توصف «الإخوان المسلمون»، الذين مثلوا أكثرَ تجارب الكيانات دون الدولة فشلاً وتهديداً.
وهنا يبرز الوعي السعودي المبكر كعلامة فارقة في المشهد. فقد أدركت المملكة منذ وقت مبكر أن هذه الكيانات ليست مجرد منافس سياسي، بل هي تهديد وجودي لمفهوم الدولة، لذلك مضت في حظر جماعة «الإخوان المسلمين» وتصنيفها تنظيماً إرهابياً، في وقت كان فيه كثيرون في المنطقة والعالم ينظرون إليهم حركةً سياسيةً طبيعيةً. واجهت السعودية حينها هجومات إعلامية، لكنها أصرت على موقفها انطلاقاً من قناعة استراتيجية بأنَّ المستقبل لا يُبنى مع كيانات تضع الولاء الآيديولوجي فوق الولاء الوطني. ومع إطلاق «رؤية 2030»، عبّر ولي العهد السعودي بوضوحٍ عن هذه القطيعة التاريخية، مؤكداً أنَّ التنمية والانفتاح والتقدم لا يمكن أن تجتمع مع تنظيمات ما دون الدولة. لقد كان ذلك إعلاناً شجاعاً بأنَّ التحديث مشروعُ دولة، وليس مشروع جماعات أو ميليشيات.
اللافت أنَّ الغرب نفسه بدأ في الآونة الأخيرة يعيد النظر في تعامله مع بعض هذه التنظيمات، على رأسها تنظيم «الإخوان المسلمين». فالصورة التي روّجت لهم كحركة مدنية سلمية لم تعد تقنع صانعَ القرار الغربي الذي يراقب أبعادَ مشروعهم السياسي. هذه التحولات الغربية، وإن جاءت متأخرة، تعزّز صحة الرؤية المبكرة التي تبنَّتها السعودية، وتُظهر أنَّها كانت سبّاقة في فهم طبيعة التهديد. وبهذا المعنى، يمكن القول إنَّ الموقف السعودي جاء صياغة لمعيار إقليمي جديد قوامه: لا مستقبل للمنطقة مع كيانات ما دون الدولة.
إنَّ ما يجري في الشرق الأوسط اليوم ليس مجرد صراع مع الميليشيات أو التنظيمات المسلحة، بل مواجهة مع فكرة الكيانات ما دون الدولة نفسها. لقد أثبتت التجربة أنَّ هذه الكيانات لا تصلح لبناء مستقبل آمن ومستقر، وأنَّها مجرد وصفة لإعادة إنتاج الفوضى والانقسامات.
المنطقة اليوم أمام مفترق طرق: إما ترسيخ الدولة الحديثة بوصفها الإطار الجامع للمجتمع ومشروع التنمية، أو الانجرار وراء كيانات آيديولوجية ومسلحة تقوض السيادة وتفتت العقد الاجتماعي. والمشهد الراهن يوحي بأنَّ الخيار بات أكثر وضوحاً: نبذ الكيانات ما دون الدولة وتثبيت مركزية الدولة الوطنية باعتبارها الطريق الوحيد نحو الاستقرار والتنمية، وهو خيار جسّدته السعودية بوعيها المبكر وقطيعتها التاريخية مع هذه التنظيمات.