مع تسارع وتيرة التنمية في المملكة، لم يعد العمل الاجتماعي يُختزل في الدعم التقليدي، بل أصبح أداة استراتيجية لإعادة بناء الإنسان كمورد وطني منتج، والمجتمع كشريك تنموي فاعل. وفي ظل هذه التحولات، يتبلور العمل الاجتماعي كرافعة استراتيجية تسهم في تحقيق رؤية 2030، ولا سيما في محور «مجتمع حيوي، واقتصاد مزدهر، ووطن طموح».
وانطلاقًا من هذا الإطار، يُقدَّم هذا الطرح كإسهام تطويري بنّاء، يستند إلى تخصص أكاديمي وخبرة ميدانية مباشرة في العمل التنموي، وحرص وطني صادق، يُترجم إلى إسهام فعّال في دعم وتعزيز مسيرة التحول الاجتماعي التي تقودها الدولة برؤية طموحة وتخطيط حكيم.
ويطرح المقال رؤية استراتيجية متكاملة مبنية على ستة محاور رئيسة، تتضمن مقترحات تنفيذية تنقل العمل الاجتماعي من تعدد الأدوار إلى التكامل، ومن الاستجابة للحاجات إلى الاستباق والتخطيط، مع التركيز على التمكين والمشاركة بدلاً من الاعتمادية.
فهل تساءلنا: كيف يمكن أن يتحوّل العمل الاجتماعي إلى محفّز حقيقي للتحول الوطني الشامل؟
المحور الأول: التمكين الشامل - استثمار في الإنسان لا في الاحتياج
ترسيخ التمكين كمنهج تنموي يُحوّل دور المستفيد من متلقٍ للدعم إلى شريك فاعل في بناء مستقبله الاقتصادي والاجتماعي.
مقترحات تنفيذية:
1- إطلاق «مبادرة الجسر التمكيني» في ثلاث مناطق نموذجية، لربط الضمان الاجتماعي بالتأهيل المهني والتمويل الأصغر، بهدف بناء مسارات اقتصادية مستقلة ومستدامة للمستفيدين
2- تفعيل وحدات تمكين تنموية بمراكز الضمان، تُعنى بالتأهيل وربط الأسر المنتجة ببنك التنمية.
3- تصميم «خطة خروج طوعية» للقادرين على العمل، تتضمن حوافز للتأهيل والتشغيل، مع ضمان استمرار الحماية للفئات غير القادرة.
المحور الثاني: التحول الرقمي - من الاستجابة إلى الاستباق
لم يعد التحول الرقمي ترفًا إداريًا، بل أصبح ضرورة لإعادة تشكيل منظومة العمل الاجتماعي عبر توظيف البيانات والتقنية، لتوجيه الخدمات بدقة واستباق التحديات، بدلاً من الاكتفاء بردود الفعل.
مقترحات تنفيذية:
1- تطوير منصة تحليل موحدة تربط بيانات الخدمات الاجتماعية، وتُقدّم تصورًا دقيقًا لحالة المستفيد، بما يعزز التدخل الاستباقي.
2- تصميم مؤشرات ذكية لقياس الأثر التمكيني، كتحول المستفيد من الدعم إلى الاكتفاء، ومعدلات الإعادة، ونمو الاستقلال الاقتصادي.
3- تفعيل أدوات تقييم تفاعلية تشرك المستفيدين عبر استطلاعات رأي دورية وتغذية راجعة رقمية لتحسين جودة الخدمات.
المحور الثالث: التكامل المؤسسي - من تعدد الأدوار إلى التمكين الحوكمي
تمتلك وزارة الموارد البشرية، ومجلس شؤون الأسرة، والقطاع غير الربحي أدوات فاعلة، لكن توسّع الأدوار وتداخل الصلاحيات يبرز فرصًا واضحة لتعزيز التنسيق المؤسسي، بما يرفع كفاءة الأثر ويضمن استدامته.
مقترحات تنفيذية:
* إنشاء وحدة دائمة للحوكمة الاجتماعية داخل الوزارة لتنسيق الأدوار وضمان التناغم بين الجهات.
* تحديد أدوار ومسؤوليات واضحة لكل جهة ضمن إطار شراكة مؤسسية تعزز التعاون بعيدًا عن التداخل أو الازدواجية.
* تعزيز قدرات منظمات المجتمع المدني وتأهيلها ضمن مسار الخصخصة قبل إسناد الخدمات، وربط ذلك ببرامج تمكين ممنهجة تدعم الابتكار المحلي.
* ربط التمويل والاعتماد المؤسسي بمستوى الجاهزية والتكامل والابتكار.
لا تهدف هذه المقترحات إلى تقليل الجهود القائمة، بل إلى تعزيزها وتطويرها ضمن منظومة تكاملية رشيدة تعظم الأثر وتحسن الأداء.
المحور الرابع: من نموذج الدعم إلى شراكة تمكينية تنموية
نموذج الشراكة يُحقق تنمية مستدامة من خلال تمكين الأفراد والمجتمعات، وتحفيز الاعتماد على الذات، مع ضمان الحماية المستمرة للفئات الأكثر احتياجًا.
مقترحات تنفيذية:
1- ربط الدعم المالي بمسارات تأهيل قابلة للقياس.
2- تطوير بيئة انتقالية محفّزة للخروج الطوعي من الاعتمادية.
3- اعتماد مؤشرات أداء نوعية تعكس جودة واستدامة التمكين وليس مجرد عدد المستفيدين.
المحور الخامس: نماذج تمكين مبتكرة - شراكات
لا إعانات
يرتكز التمكين الفعّال على تبني نماذج تنموية مبتكرة تقوم على التعاون الاستراتيجي المستدام مع القطاع الخاص والمجتمع المدني، بدلاً من الاعتماد على الإعانات المباشرة، وذلك لتقديم حلول مستدامة تتناسب مع الاحتياجات المحلية.
مقترحات تنفيذية:
1- تطوير شراكات استراتيجية مع القطاع الخاص لتحويل دوره من جهة ممولة إلى شريك فاعل في التمكين من خلال التدريب، والتوظيف، ودعم المشاريع الصغيرة للمستفيدين.
2- بناء قدرات الجمعيات التنموية لإدارة مشاريع إنتاجية، وتأهيل المستفيدين وربطهم بسوق العمل بما يتناسب مع خصوصيات واحتياجات كل مجتمع.
3- تفعيل دور الجامعات ومراكز الأبحاث للمساهمة في تصميم وتقييم البرامج الاجتماعية المبنية على الأدلة وضمان فاعليتها واستدامتها.
المحور السادس: قياس الأثر
... لا الإنفاق
النجاح لا يقاس بكمية الميزانيات المصروفة، بل بمدى تحقق نتائج ملموسة تُعزز الاستقلالية وتحسن جودة الحياة. ومع دعم الدولة الكبير والمتواصل، يأتي التحدي في تحويل هذا الدعم إلى نتائج فعلية ومستدامة تعزز الاستقلالية وتحسن جودة الحياة.
مقترحات تنفيذية:
1- تصميم مؤشرات متكاملة لقياس التمكين والاستقلالية.
2- رصد ومتابعة المستفيدين على مدى فترات طويلة لضمان استدامة الأثر.
3- إشراك المستفيدين في تقييم جودة الخدمات عبر أدوات تفاعلية.
4- إطلاق جائزة وطنية للتمكين والابتكار الاجتماعي.
ويُعد تبني ثقافة قياس الأثر بجدية من كل الجهات المعنية حجر الزاوية لضمان استدامة التنمية وتحقيق الأهداف المرجوة.
إن إعادة تعريف العمل الاجتماعي كرافعة تنموية يتطلب تجاوز الأطر التقليدية، وبناء منظومة متكاملة تضع التمكين في صلب السياسات الاجتماعية. فالتحول نحو نماذج أكثر فاعلية واستباقية، تستند إلى التكامل المؤسسي، والتحول الرقمي، والابتكار، وقياس الأثر، هو ما يضمن الاستدامة وتعظيم الأثر.
وفي قلب هذا التحول، لا بد أن نُعيد توجيه البوصلة نحو استثمار في الإنسان لا في الاحتياج، حيث يكون التمكين مدخلًا رئيسًا لبناء مجتمع أكثر إنتاجًا ومشاركة وشمولية.
وبما تمتلكه المملكة من إرادة سياسية واعية ورؤية طموحة تقودها القيادة الرشيدة، فإن تحويل العمل الاجتماعي إلى مسار تنموي فعّال ليس خيارًا، بل ضرورة استراتيجية تؤسس لمستقبل أكثر إنصافًا واستدامة، وتُعزّز مكانة المملكة عالميًا في مجالات التنمية والتمكين.
تجدر الإشارة إلى أن هذا المقال يقدم رؤية استراتيجية أولية وخطوطًا عريضة قابلة للتوسيع، ولا يزعم الإحاطة بجميع التغيرات أو التحديات المرتبطة بتطوير العمل الاجتماعي.