يعبّر كل حدثٍ عن «ذروة قصوى»، وأقسى تلك الذروات هي الحرب، والحب، والموت. وعليه فإن العقلانية في ردّ الفعل ضرورية، ولكنها تتطلّب مزيداً من التفكير والتأمل والثبات، من دون تسرّع أو اندفاع أو تهوّر.
والحروب المستعرة الحاليّة هي امتداد لإرثٍ إقليمي من التقاطعات الطائفية، والتنازعات القبلية والدينية، وليس انتهاءً بالصراعات السياسية، ومحاولات التمدد، وإرادات الهيمنة.
ليست هنا المشكلة، فهذه حتمية تاريخية، وحركة تدافع طبيعية، وإنما الإشكال الأساسي في محاولة استغلال هذه الأحداث ضمن تياراتٍ وآيديولوجياتٍ تريد الاستثمار بأي حدث؛ بغية الانبعاث والصعود من جديد في المجتمعات ومحاولة تقويض سيادة الدول.
لذلك سعدتُ بقراءة كتابٍ أساسي صدر مؤخراً عن مركز المسبار للدراسات والبحوث، بعنوان: «7 أكتوبر طوفان الإسلاميين». هذا الكتاب جاء في وقته، وآية ذلك أن الحرب بين إيران وإسرائيل حاول البعض توظيفها للتشويش على المجتمعات والإرجاف بها، مدعين أن ثمة شيئاً ما سيحدث، متجاوزين التصريحات الرسمية المطمئنة. لهذا فإن الطوفان الأكثر شراسةً يتمثّل في محاولة هذا الانبعاث المدمّر.
يتناول الكتاب كل التحولات الاستراتيجية للجماعات «الجهادوية» والتنظيمات الإسلاموية بعد أحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وأبرزها «القاعدة» و«داعش» و«جماعة الإخوان المسلمين» وفروعها؛ حيث مثّلت الهجمات، فرصة لاستعادة خطاب العنف، وتواصل الجماعات، وإحياء المزايدات التي تستغلها الحركات في العمليات التجنيدية. بل أدخلت تكتيكات جديدة على مستوى المباغتة والمفاجأة والإعداد ضمن سياق كامن، وتوظيف فكرة العمل السياسي الطويل لصالح العمل العسكري المباغت، ضد الدولة، وطرحت سؤال التعاون العابر للمذهب، مجدداً التأكيد أن الإسلام السياسي ملة واحدة.
استفاد تنظيم «الإخوان المسلمين» من حدث «7 أكتوبر» ولواحقه المنطقيّة؛ فزاد مستوى مراهنته، ومطالباته، وأعاد توظيف الخطاب الآيديولوجي، وتضخيم الرسائل التسخيطية، وجدد أدواته لمهاجمة الدول.
وفي الكتاب كشفت دراسة الباحث التونسي أحمد نظيف عن نموذجَيْن هما: حركة مجتمع السلم (حمس) في الجزائر، وحزب العدالة والتنمية في المغرب، مقارناً بينهما، ومستحضراً ثنائية التضاد في الأنموذجَيْن، ولكن رغم البون بينهما؛ كشفت الدراسة عن أن حدث «7 أكتوبر» أعاد إنتاج شكل جديد من «الأممية الإسلاموية» داخل خطابي الحزبَيْن، مبني على توظيف المظلومية الفلسطينية، لبناء شبكات متقاطعة محليّاً ودوليّاً، وصياغة سردية جديدة تستأنف بها مشروعها التّمكيني، وتعوّض خساراتها في سنوات ما بعد انحسار موجة الخريف العربي.
الأنموذج الثالث لحصاد «7 أكتوبر» تمثّل في الجانب الأردني، ورصدته دراسة الباحث الأردني سعود الشرفات، وحلّلت المكاسب الانتخابية التي حقّقتها الجماعة في البرلمان الأردني؛ إذ نالت (31) مقعداً من أصل (138) بنسبة (22 في المائة) من أعضاء المجلس النيابي، في سابقة للجماعة منذ أكثر من ثلاثة عقود.
أما دراسة لورينزو فيدينو (Lorenzo Vidino) فتستعرض جانباً من شبكات «الإخوان المسلمين» و«حماس» في أوروبا، مبيّنة موقف الأوروبيين، لافتة إلى أن معظم السياسيين، وغالبية الأجهزة الأمنية وأجهزة إنفاذ القانون، لا يتعاطفون مع «حماس»، لكنهم لا يرون في الحركة تهديداً مباشراً لأوروبا، ومن ثم يوجّهون الموارد والانتباه إلى جماعات أخرى أكثر إلحاحاً مثل: «داعش»، و«القاعدة»، وجماعات النازية الجديدة. ويرى الباحث أن ما يواجهونه من صعوبة لمقاضاة الأنشطة التي يمارسها أعضاء «حماس» في أوروبا؛ لأنها لا تنطوي على هجمات، وإنما تقتصر على جمع الأموال والنشاط السياسي. كما أن تخصيص موارد ضخمة لإجراء تحقيقات معقّدة تهدف إلى تفكيك شبكات لا تشكل تهديداً أمنيّاً، فضلاً عن فتح المجال أمام اتهامات بالإسلاموفوبيا وخدمة مصالح إسرائيل؛ ليس اقتراحاً جيداً لأجهزة الأمن والمدعين العامين الأوروبيين.
الخلاصة؛ إن الكتاب يكتسب راهنيّته من قوة الحدَث وما تلاه من تشظّياتٍ عنيفة، ويتجاوز التحليل اليومي الاعتيادي؛ ليتدخّل في محاولة اجتلاء الدرْس من الكوارث الحاليّة. العبرة الآن بالخطاب العاقل الذي يفكّر بالواقعة ويجعلها ضمن اختبارٍ لئلا تتكرر الأخطاء مجدداً والضحية بنهاية المطاف هو الإنسان العادي المغلوب على أمره.